دراسات | العلمانية بين سوريا وتركيا.





تزامن عملياً نشوء سوريا الحديثة مع نشوء تركيا الحديثة، إثر سقوط الإمبراطورية العثمانية. ومضت كل منهما في طريق مستقل عن الأخرى بعد أن كانتا ضمن وحدة سياسية واحدة تحت السلطة العثمانية.
لكن التشابه بين البلدين لا يقتصر على النشوء الزماني، بل في كلا البلدين غالبية إسلامية سنية مع وجود طوائف ومذاهب وإثنيات بعضها مشترك في البلدين وبعضها يشكل نسبة كبيرة من عدد السكان في كلا البلدين أيضاً.
كذلك فقد وُجد الكثير من التشابه على أكثر من صعيد مجتمعي جراء الجوار الجغرافي بين البلدين المتصل على حدود طويلة جداً. فكانت البنى الإدارية والمؤسساتية قبيل انهيار السلطنة متشابه إلى حد ما بين البلدين. فضلاً عن المدارس والتعليم والصحافة والجمعيات وما إلى ذلك.
غير أن سوريا انتقلت مباشرة بعيد استقلالها عن السلطنة العثمانية إلى الوقوع تحت الاحتلال/الانتداب الأوروبي/الفرنسي، خلافاً لتركيا التي شقت طريقها مستقلة.
الآن إذا ألقينا نظرة عامة مقارنة بين درجة تطور كلا البلدين نرى أن الفروق بينهما أضحت كبيرة جداً. لنرى أن تلك العوامل المشتركة، خاصة المتعلقة بالبنية الاجتماعية كالطوائف والمذاهب، لم تلعب نفس الدور في كلا البلدين.
ولنتبين كيف وكم كان الافتراق بحال البلدين بعد هذه العقود من التجربة أرى توجيه بعض الأسئلة لباحثين أتراك وسوريين وغيرهم من المهتمين بالموضوع.
ربما يمكننا النظر بداية في النقطة الفارقة لتركيا عن سوريا وهي نشوء دولتها العلمانية.

  وغالبا ما كان محور هذا النقاش يرتكز على أن العلمانية التركية قامت واستمرت بإرادة سلطوية؛ وكان مناوئو العلمانية يعتبرون أن هذه الإرادة تخالف الإرادة الشعبية، ويعتبرون أنه ما أن تضعف هذه المقدرة السلطوية حتى تنهار العلمانية في تركيا.
الآن ما زالت العلمانية التركية قائمة رغم انتهاء هذه الإرادة السلطوية، أو تنحيها، وتمكّن نخب إسلامية من السيطرة على أغلب مؤسسات الدولة والسلطة عبر صناديق الاقتراع – أي بإرادة شعبية – وبالاعتماد على الدستور والقوانين العلمانية؛ وفي المقابل قبول العلمانيين المسيطرين بتسليم السلطة بشكل سلمي وسلس.
هذا الواقع الجديد كان موضوع قراءات متعددة ومتنوعة بين أطراف النخب الثقافية العربية. وهو تجربة تستأهل الاستمرار في قراءتها وإعادة قراءتها لكثرة التساؤلات التي تطرحها:
-لدى البعض، وخاصة العلمانيين، قلق من سيطرة النخب الإسلامية على السلطات خشية انقلابها على قيم العدالة والمساواة وتحولها إلى قوى دينية وإيقاع الجور بحق الأقليات والعلمانيين؛ فما الذي حال دون وقوع مثل هذا الارتداد مؤخرا بتركيا، أهو عدم صوابية ذاك القلق، أم نتيجة خصوصية النخب الإسلامية التركية واختلافها عن مثيلاتها العربية؟ أم أن الثقافة العلمانية تجذرت طيلة عقود سيطرتها في أعماق المجتمع التركي، رغم أنه يدين بالإسلام، كما الحال في المجتمعات الغربية، رغم أنها تدين بالمسيحية، وبالتالي يمكن إسقاط حجج البعض (أو الكثر) بأن العلمانية لا يمكن أن تتقبلها الشعوب الإسلامية؟
-أي هل من ضمانات لعدم عودة الدولة التركية إلى الصيغة التيوقراطية، وإن وجدت أية ضمانات فهل هي ثقافة الشعب التركي وإرادته الحرة المتمسكة بالمنجز العلماني؟ أم قناعة النخب الإسلامية، التي سيطرت مؤخرا، بأن العلمانية هي التي متّنت الديموقراطية التركية التي أتاحت بدورها وصول هذه النخب بشكل سلمي إلى السلطة، وأن هذه الديموقراطية التي تقوم على العلمانية وقيمها هي الضامن لهذه النخب أيضا من أن يستبد فريق منها بآخر بذريعة "صحة" الاعتقاد الديني و"صحة" التمثيل الديني.
ما كان لتجربة كهذه إلا أن تؤثر بشكل أو بآخر بجوارها وبالقريبين منها؛ ربما سيكون من الجيد تقصي آثارها على المجتمعات العربية، خاصة القريبة جغرافيا من تركيا، أي المشرق العربي:
-هل اقتصرت آثار التجربة التركية الحالية على أن تكون موضوع نقاش وجدال في الأوساط الثقافية العربية، أم تعدت ذلك داخل البنى الاجتماعية والدولاتية:
-هل أدت إلى أي تغيير ولو طفيف في الرؤى السياسية والإيديولوجية للأحزاب والقوى السياسية، الدينية وغير الدينية بما فيها الديموقراطية والعلمانية والقومية؟ وفي أي اتجاه كان هذا التغير؟
-وهل من الممكن أصلا أن تقبل النخب الإسلامية العربية، فيما لو استلمت السلطات، الاحتفاظ بالمنجز العلماني المحدود وعدم الانقلاب عليه؟ فهل هذا الخيار عند النخب التركية الإسلامية هو نتاج تأمل عقلي أم هو نتاج ثقافة ومعاش علمانيين تربوا عليهما؟ ما يثير هذا التساؤل عن الاختلاف في هذه النقطة بين النخب التركية الإسلامية ومثيلاتها العربية، وبالأخص المشرقية، أن هذه الأخيرة لم تجد سبيلها إلى قلوب الجمهور كما الأتراك، ولم تتمكن من تبديد قلق مخالفيها، فضلا عن الأقليات الدينية والطائفية والعديد من النساء. بل ما زال زعماء هذه النخب، خاصة السياسية منها، من المشايخ ورجال الدين وليس من المفكرين والسياسيين.
-هل أثّرت تطورات التجربة التركية على أداء السلطات العربية المشرقية؟ أي هل يمكن أن تكون بعض الدول ذات الطابع الديني خففت من شدة قبضتها على ما كانت تعتبره أفكارا أو أخلاقا دينية؟ وهل الدول الأخرى غير الدينية، سوريا مثلا، أتاحت في المجال أكثر لتنامي أدوار لجهات وشخصيات وأفكار دينية على أساس أن تديين بعض مؤسسات الدولة أو مستويات محددة لهذه المؤسسات ما عاد مصدر قلق على بنية الدولة الحديثة وعلى بنيان المجتمع الحديث؟ لكن الأهم هل قراءة هذه السلطات للتجربة التركية هي قراءة صحيحة أو بنّاءة؟
-ما هي رؤية العلمانيين العرب للتجربة التركية؟ (هذا ليس سؤالا موجها للعلمانيين، بل عن العلمانيين)
تنحّت القوى والتيارات العلمانية العربية المشرقية عن الميدان السياسي ليقتصر تواجد المثقفين العلمانيين أفرادا على الحقل الثقافي المحض، ولم تعد العلمانية صفة رئيسية للقوى السياسية التي ما زالت متواجدة في المعترك السياسي والتي كانت توصف أو تتصف بالعلمانية للدلالة على قضية رئيسية وجوهرية لديها تميّزها عن القوى الأخرى. وقد لا يعزى هذا في جله إلى انتشار موجة إخفاق الطرح اليساري العالمية، بل قد يكون دليل عجز الفكر العلماني وأصحابه عن التصدي للمشاكل والصراعات الحقيقة التي تواجه حياة مجتمعاتنا الراهنة. فمع كل الصراعات الراهنة التي تعصف بمجتمعات المشرق العربي وتتهدد بناه المجتمعية ودوله بالانهيار، فإننا لا نرى وجود تيارات وقوى سياسية علمانية فاعلة تطرح مشاريع إقامة دولة علمانية جامعة لمجتمعاتها. لتبقى أفضل الطموحات المطروحة، في مواجهة هذه الأوضاع، محدودة ضمن صيغ توافقية طائفية أو ما يشبهها بين الأطراف الأهلية المتصارعة، والتي لا يُرجى منها أكثر من هدنة، ولو طالت، لتحييد الصراعات الدموية لا غير. هل ذلك لأن فكرة الدولة العلمانية لا يمكن أن تشكل حلا لمجتمعات المشرق العربي، وبالتالي لا تجد بين السياسيين من يتبناها؛ أم ماذا؟ هذا كله وغيره يقيم عليه مخالفو العلمانية ومعارضوها حججهم على ادعائهم عدم جدوى العلمانية في مجتمعاتنا وبلداننا، وأنها لا تتعدى كونها رفاه ثقافي خاص ببعض فئات المثقفين:
-ما هي أسباب تراجع القوى العلمانية، أو تنصل بعضها من علمانيتها، واقتصار أنصارها على بعض المثقفين غير المنظمين.
-اعتبرت بعض هذه القوى أنها لم تتراجع عن العلمانية بل هي مستبطنة حُكماً بطرحها الديمقراطي، الذي جبّ عبر تطوره كل القيم العلمانية من دون الحاجة إلى اعتماد الخطاب العلماني المكروه من الجمهور. لتبقى مسألة العلاقة بين العلمانية والديموقراطية معضلة حاضرة دوما وبقوة في النقاش الثقافي العربي الذي يتناول أي قضية مجتمعية. لدرجة أن هذه المسألة تحولت إلى قضية صراعية بين المثقفين السوريين الذين انقسموا على أولوية العلمانية أم الديموقراطية كحل لأزمات ومشاكل المجتمع السوري. فما الحلقة الضائعة بالعلاقة بين العلمانية والديموقراطية؟
-إن كانت جميع الأطراف تعتبر أن غاياتها الوصول إلى إقامة دولة العدل والمساواة، فهل يمكن لمثل هذه الدولة أن تقوم في مشرقنا العربي المتعدد المذاهب والجماعات والأجناس من دون اعتماد قيم علمانية صريحة؟ وهل يمكن إقامة دولة تكون لاعلمانية ولادينية وتستطيع تحقيق العدالة والمساواة بين جماعاتها وأفرادها.
هناك الكثير من المستجدات في العالم، على جميع الأصعدة والمستويات، كنجاح النخب الإسلامية في استلام السلطة في تركيا؛ واستقرار نموذج الدولة الدينية الإيرانية وبقائه نموذجا عند البعض لدولة ديموقراطية وليست علمانية؛ وإخفاق العلمانية الهندية (كمثال) عن إنهاء الصراعات الطائفية؛ إضافة إلى اتساع حقول انتشار التدين في الغرب. كل هذا وغيره اعتبره البعض إخفاقا صريحا للعلمانية، ما وضع العلمانيين أمام أسئلة وتحديات جديدة وجدية، لينقسموا وفق طبيعة إجابتهم عنها إلى عدة تيارات، يمكن التمييز بين ثلاثة منها على الأقل: جماعة ما زالت ترى ضرورة تحييد الدين أو إقصائه عن المشاركة في المجال العام، وجماعة ترى إمكانية التماشي مع الواقع الديني واستيعابه ضمن الطرح العلماني، والثالثة تعتقد أن شعوبنا، التي تتسم بتدينها بالإسلام، لا يمكن أن تقبل بالعلمانية، لكن بالمقابل لا يمكن مهما تعالت الشعارات المؤمنة بالدولة الإسلامية أن تقوم عندنا دولة دينية، بسبب إخفاق هذا النموذج من العيش والاستمرار في العصر الحديث؛ فهذا العصر، وفق رأي هذه الجماعة، هو عصر الديموقراطيات:
-هل تعدد وجهات النظر هذه يدل على تهتك الطرح العلماني وخسارته دوره وخطابه في بلداننا؟
-البعض يأخذ من الغرب مثالا في تساهله تجاه التنظيمات السياسية الدينية، معتبرا أنه لا يوجد ما نخافه من قيام أحزاب على أساس ديني في مجتمعاتنا. ما الفرق بين الأحزاب المسيحية في الغرب والأحزاب الإسلامية عندنا؟
يعتبر الكثيرون أن الطرح العلماني في منطقتنا هو طرح ترفي ونخبوي، بعيد بل ومتعارض مع الهم الشعبي: ما يعني أنه غلط.
-ما هي طبيعة العلاقة بين النخب وبين الشعب، وتحديدا على مستوى صناعة تاريخ المجتمعات.
-هل من اختلاف في الفوارق بين النخب والشعوب في منطقتنا وبين الغرب؟
-إلى أي حد يمكن الاعتداد بمقدرة شعوب المشرق على صناعة مستقبلها، ولو تعارض ذلك مع تصورات نخبها؟ وبعبارة أخرى إلى أي حد يمكن الاطمئنان لخيارات شعوبنا في تقرير مصيرها وهي بحالتها الراهنة إذا ما مُكِّنت من صناديق الاقتراع؟
-هل الفارق النوعي – في الوعي والثقافة والتعلم – بين النخب، بما في ذلك السلطات، وبين الشعوب يبيح للنخب الأخذ بخيارات لا تتوافق مع هموم الشعوب.
 تزداد حالة الفقر وضيق المعاش عند شعوب المشرق العربي، في الوقت الذي عادت آليات السيطرة إلى يد طغمات مالية بعد سقوط الخيارات الاشتراكية وما شابهها من ادعاءات تهدف إلى إقامة العدالة الاجتماعية.
-ما نفع العلمانية في ظل ظروف اجتماعية مترافقة مع قرارات بإنهاء الصراع الطبقي والاجتماعي؟
-هل لغياب الخطاب العلماني وتراجع الطروحات العلمانية ارتباط بانتهاء مرحلة الاقتصاد الموجه وسيطرة القطاع العام والبدء باعتماد اقتصاد السوق؟
شاركه على جوجل بلس

عن Editor

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق