دراسات و أبحاث | حــوار الأديـان من منظور نظريّة التجليّات الصوفيّة.


الرائج عن التصوف أنّه نظرية زهدية تقشفية، أو رؤية فرارية وانزوائية عن المجتمع وعن الواقع، لكن عند الباحثين المحققين ليس التصوف فقط نسكًا وزهدًا وبُعدًا عن ومن الحياة، بقدر ما هو - وقبل كل شيء - رؤية لله وللعالم، ونظرية تفسيرية الكون والإنسان.

على الرغم من أنّه قد يتداول في بعض الأوساط الدينية والإعلامية التي ترفع شعار السلفية، أنّ التصوف تراث ديني سابق عن الإسلام، ويتناولونه بمعول البدعة والضلالة، وربما التكفير والإخراج من الملة، لكن مراجعة عابرة للقرآن الكريم تؤكد أنّ علم التزكية (الذي سمي فيما بعد بالتصوف) هو علم قرآني محض، ورد ذكره تصريحًا وتلميحًا في الكثير من آيات الذكر الحكيم التي تؤكد أنّ وظائف الأنبياء والرسل كانت عبر التاريخ هي إيصال علم خاص هو علم التزكية للبشر، بل إنّ الله تعالى في القرآن الكريم قد اشترط ورهن وربط الفلاح والنجاح والجنة بوجوب المرور عبر التزكية علمًا وتطبيقًا، وقد يدعي الفقهاء ورجال الدين من أهل الظاهر العلم بالكتاب والشريعة، لكنهم لا يستطيعون ادعاء الإحاطة بتفاصيل علم التزكية، ووحدهم هم الصوفية الذين يدعون ذلك.

وتطرح الدراسة التي أجراها الباحث الجزائري الدكتور فرعون حمو ونشرت على موقع مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" للدراسات والأبحاث تحت عنوان"حـوار الأديان من منظور نظريّة التجليّات الصوفيّة" في قسم الدراسات الدينية، فكرة إمكانية تدرج نظرية التجليات الصوفية ضمن البدائل والخيارات الاستراتجية في سياسات المعرفة وفي حوار الأديان والحضارات والمصالحة بين الثقافات، متسائلة حول إمكانية تشكل منطلق عقائديّ علميًّ عمليّ أنتروبولوجي تأسيسيّ يساعد على الخروج من نفق الهويات المغلقة، ومن كهوف الإيديولوجيات الدينية الميتة والمُميتة التي تعاني منها البشرية في الوقت الراهن؟

تبحث الدراسة إمكانية تدرج نظرية التجليات الصوفية ضمن البدائل والخيارات الاستراتجية في سياسات المعرفة وفي حوار الأديان والحضارات والمصالحة بين الثقافات
والتصوف في نفسه، وفق الدراسة، علم شريف مداره على اتباع السنة وترك البدع والتبري من النفس وعوائدها وحظوظها وأعراضها ومراداتها واختياراتها، كما ورد هذا المعنى عند الغزالي والشاطبي، وحتى ابن تيمية الذي تُقدمه بعض دوائر الإعلام الديني الاسلامي، على أنّه العدو الأول للتصوف، في لحظة صفاء ووفاء منه يُقر ويَشهد أنّ أهل التصوف متبعون وملتزمون بالكتاب والسنة اتباعًا لا مخالفة فيه ولا انحراف.

وبهذه الشهادات وغيرها، واستقراءً لمصادر الإسلام وحفرًا في نصوصه يكون التصوف، في معناه الأبعد، حسبما أورد الباحث، يمثل عمق الإسلام وجوهره، أو هو التحقق بمقام الربانية القرآني؛ أي ليس شيئًا أتى من الخارج فألصق بالإسلام، وإنّما هو بالعكس جزء جوهري من الدين؛ إذ إنّ الدين بدونه يكون غير مكتمل كما هو واضح، بل يكون حينئذ ناقصًا من جهته العليا.

وإجمالاً وعلى مستوى النص القرآني والحديثي، يُمكن التأصيل المبدئي لعقيدة التجلي الصوفية من خلال الاستشهاد بقوله تعالى في سورة الأعراف الآية 143: "فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً"؛ فمنطوق هذه الآية ومفهومها على تأكيد عقيدة تجلي الله تعالى إمكانًا وواقعًا.

وعلى الرغم من أنّ التجلي الإلهي عند شيخ الصوفية الأكبر ابن عربي "دائم لا حجاب عليه ولكن لا يعرف أنّه هو"، إلا أنّه يشرحه قائلاً: "التجلي عند القوم ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب، وهو على مقامات مختلفة..".

وفي تحليل الدكتورة سعاد الحكيم لفظ التّجلّي في اصطلاح ابن عربي "يتسرب إلى كل البنيان الفكري لشيخنا الأكبر، ويتداخل مع نظرياته كافة، بل هو العماد الذي يبنى عليه فلسفته في وحدة الوجود؛ إذ بالتجلّي يفسر الخلق- وكيفية صدور الكثرة عن الوحدة دون أن تتكثر الوحدة الوجودية، والمعرفة العلمية الصّوفية...".

ويشير الباحث إلى أنه قبل دعوات الحوار الصادرة من الأمم المتحدة، وقبل الملتقيات الدولية والإقليمية في العصر الحديث حول الحوار بين الأديان والحضارات والثقافات، كان الأمير عبد القادر الجزائري ومن معتقله في مدينة "بو" الفرنسية من أوائل الشخصيات التاريخية في العالم، وفي قلب القرن 19 يطرح فكرة الحوار ويخوض غمارها مع أشهر ممثلي الأديان في ذلك الوقت .

وفي نص تبشيري مركز واعد، يُصرّح الأمير الجزائري بنبرة احترافية استشرافية واثقة، بأنّه يستطيع رفع الخلاف الكبير الواقع بين النصارى واليهود والمسلمين. ففي أجواء الحوار بين الأديان وكمبدأ أولي يعلن الأمير أنّ الخلق كلهم يعرفون الله ولو بوجه من الوجوه؛ لأنّ "المعرفة بالله ثابتة فإنّ الله ما خلق الخلق إلا ليعرفوه، فلابد أن يعرفه الخلق ولو بوجه ما"، كما لا ينفي الأمير المعرفة بالله عن سائر أهل الأديان باعتبار "إلهنا وإله كل طائفة من الطوائف المخالفة لنا واحد وحدة حقيقية، كما قال في آي كثيرة "وإلهكم اله واحد"، وقال: "وما من إله إلا الله"، ويتأول الأمير قوله تعالى: "وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه"  أي حكم (حكمًا قاطعًا متحققًا لا يتخلف).

لكن هذا الإله الأعظم المطلق الذي يعتقد به وفيه الأمير عبد القادر ظهر متقيدًا ومتجليًا عند كل أصحاب الأديان، ويعتقد الأمير أنّ كل عبادات الخلق ودياناتهم هي في الأخير من تجليات الحق.

الخطأ في تعيين الإله والخطأ في حصره وتقييده، وفق حمو، هي وصفة الأمير التشخيصية لأمراض الديانة اليهودية والمسيحية، وحتى الإسلامية المتمثلة في المذاهب الكلامية المسلمة، فالخلل عند أهل الأديان، هو في عدم قدرتهم على استيعاب مطلق تجليات الحق، وفي حصرها في المنظومات الدينية المسماة عقائد مقدسة، واختلاف الأديان عند الأمير هو بسبب اختلاف الأسماء الإلهية؛ لأنّه "لما تعددت ظهورات المقصود بالعبادة، تعددت الملل والنحل".

وخصوصية الملة المحمدية من بين جميع الملل الأخرى في نظر الأمير الجزائري هي في عقيدة التجليات، التي تعني إطلاق الإله في عين تقيده، وتقيده في عين إطلاقه، والتي تظهر عند ورثة هذا النبي العربي من الصالحين وخُلّص الأولياء.

وبحسب الرؤية التحليلية الصوفية تكون عقيدة التجليات هي العقيدة القرآنية الإسلامية الجامعة، وما عداها من العقائد فهي عقائد حصرية تقييدي؛ فهي تكسر كل الحواجز وترفع كل عوائق الحوار والتفاهم بين الأديان والحضارات.

المصدر مؤمنون بلاحدود




شاركه على جوجل بلس

عن Editor

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق