مقالات | الإسلام دين علماني لا كهنوتية فيه بقلم نبيل علي صالح.


نبيل علي صالح كاتب و مفكر سوري

بقلم:نبل علي صالح - كاتب و مفكرر سوري.
يعتبر التنوير الغربي حركة ثقافية وعملية واسعة شاملة حققت أوروبا بموجبه وبعد مخاضات تاريخية مجتمعية طويلة وعسيرة، نهضتها الحضارة المدنية الرفيعة.. ولم يفلح العرب حتى اللحظة في تحقيق أي استثمار إيجابي وفعال لتلك التجربة الغربية، حيث لا يزال سؤال الحداثة والتنوير -وعموم أسئلة النهضة العربية المتمحورة حول علة تقدم الغرب وتأخر العرب والمسلمين- سؤالاً إشكالياً بامتياز في داخل الفضاء الثقافي والاجتماعي العربي بالرغم من مضي عقود عديدة على طرحه من قبل مفكري النهضة العربية (من رفاعة الطهطاوي وفارس الشدياق وبطرس البستاني وشبلي شميل وفرح أنطون وغيرهم)..

كما ولا يزال هذا السؤال يحظى باهتمام مفكرين وباحثين كثر ممن اشتغلوا على قضايا التنوير والنهضة لاحقاً، وذلك بالنظر لعدم تمكننا كعرب من اللحاق بركب الحضارة المدنية والعلمية الكونية حتى الآن، وبقائنا شبه معطلي العقل والفكر، ومغيّبين عن ساحة الوجود والحياة العالمية والفاعلية الحضارية على مستوى التأثير السطحي والفاعلية المحدودة والإنتاج الفكري والعقلي والعلمي الضعيف وغير النوعي والدور البسيط غير التكاملي والمكانة المتدنية، ليقتصر حضورنا النوعي والكمي فقط على انتشار واجتياح ثقافة الاستهلاك لمجتمعاتنا، وهيمنة عقلية الشراء لمنتجات وتقنيات الآخر (الغربي المتقدم) من دون وعي ثقافته وفلسفته وقيمه الحضارية التي كرسها كتقاليد عريقة أصبحت نواظم سلوكية عالمية، وكيفية وآلية نجاحه العملي المذهل.. خاصة على صعيد تدعيم الغرب لثقافة العقل والعلم والخروج من حالة الوصاية والقصور العقلي التاريخي الذي كان مسيطراً، وتجذر ثقافة الفرد القادر، وحقوق الإنسان المقدسة، وتمكن “الإنسان-الفرد” من السير على طريق الحياة والوجود، وبنائه لمجاله المجتمعي السياسي المتوازن والعادل والمتساوي والحر بوعيه وعقله وإرادته وخياره العقلاني وقراره الحر هو، بلا هيمنة ولا سيطرة ولا إرشاد من دين أو غيره..

وتزداد حالياً أهمية الحديث عن قضية التنوير والحداثة العقلية في ظل ما أفرزه واقع ما يسمى بـ”ربيع الثورات العربية” من هيمنة التيارات والخطابات الدينية والسلفية وتحكمها بمستقبل كثير من تلك الدول العربية التي نجحت فيها الثورات، وعقدت فيها انتخابات ديمقراطية أشادت بها حتى الدول الغربية، بالرغم من كونها أدت إلى فوز الحركات الدينية المؤدلجة بغالبية مقاعد البرلمانات والمجالس.. الأمر الذي يدفعنا كمثقفين للتأكيد مجدداً على أهمية النقد والمساءلة والمحاسبة الفكرية والعقلية للفكر والنقل والتراث الحاكم، وإعادة طرح هذا السؤال التنويري على شكل وصيغة قابلية الإسلام -كدين إنساني عالمي- ليكون ديناً علمانياً من عدمه!؟.. وهل يقبل دعاة ورموز الفكر الإسلامي بفتح المجال السياسي العام -بكل ما يترتب عليه من طروحات ومفاهيم وأحزاب وتنظيمات وحقوق- أمام المناقضين لهم فكراً وعقيدة وسلوكاً حتى لو كانوا ملحدين؟!! وهل يقبل الإسلاميون بفكرة الدولة المدنية العلمانية (الحيادية تجاه الأديان والعقائد) والتي تقوم على فكرة “الإنسان-الفرد” الحر في وعيه وسلوكه وخياراته الفكرية والسياسية والعقيدية، وغير الخاضع سوى للإرادة العامة المتمثلة في القانون المدني “العلماني” العام الناظم لحركة الدولة والمجتمع؟!..

ولابد بداية من أن نشير ونحدد هنا بأن ما قصدناه وعنيناه من كلمة الدين، هو المعرفة الدينية البشرية التي فسرت وأولت نصوص دينية واجتهدت في الدين، وحاولت تقديم أنماط وقوالب محددة للوعي الديني أفكاراً وسلوكاً.. ولم نقصد من الدين تلك المعرفة الذاتية والتجربة العرفانية الحرة الخالصة والخاصة بكل شخص في طبيعة فهمه ووعيه الذاتي لطبيعة العلاقة والتجربة الروحية الخاصة بينه وبين خالقه..

من هنا نعتقد بأن تحديات الحداثة وأسئلة التنوير تفرض علينا -في سياق المساهمة في مجال ومناخ العمل على تطوير مجتمعاتنا فكراً ومعرفةً وإنتاجاً مؤثراً- امتلاك أجوبة عملية واضحة ومحددة ومؤطرة ومتفق عليها بين النخب والتيارات والقوى القائمة، بهدف بلورة وتكوين وعي علمي ومعرفي وتوافقات مشتركة بين كل تلك الاتجاهات العاملة على الأرض، لأن غياب الإرادة المجتمعية الحرة الجامعة أو على الأقل إقامتها على القسر وعدم التوافق بين الجماعات السياسية القائمة لن تحقق أية غاية نبيلة في بناء وتطوير مجتمعاتنا العربية على أسس ومعايير سياسية وثقافية جديدة قد تمكننا من الإجابة العملية على أسئلة العصر وتغيراته المتواصلة.. وهاهي بلداننا العربية التي نجحت فيها ما سمي بـ”ثورات الربيع العربي” تعاني من إرهاصات ومخاضات عدم التوافق السياسي الصحيحة المطلوبة للبدء ببناء تلك الدول من جديد.. فكل تيار يشد الحبل نحوه، وكل حزب يدعي امتلاك ناصية الإجابة النهائية والتمامية على أسئلة الواقع وشؤون المجتمع، وهذا كله يؤثر –بلا شك- على عدم بلورة خيارات والتزامات سياسية ومجتمعية واضحة خاصة على صعيد عدم تكوين وعي حقيقي مشترك لمفهوم الدين وقضية إدخاله في الحياة والعصر والحداثة الكونية..

وعلى هذا الصعيد يعاد بين وقت وآخر طرح قضية قبول الإسلام لفكرة العلمانية كقضية فكرية وسياسية، أو كاتجاه فلسفي اجتماعي، بما تتضمنه من إعلان نهائي وحاسم لانتصار العقل على التقاليد، واعتبار أن مصدر السلطة (والسياسة عموماً التي تعني إدارة الشأن العام، وفصل الخصومات بين الناس، وبناء المجتمعات على أسس الحرية والعدالة والمساواة وغيرها من القيم الإنسانية) واقع هنا في هذا العالم الأرضي النسبي وليس في العوالم الخفية (الدينية وغير الدينية) الأخرى..

الإشكالية تكمن هنا أساساً، في موافقة الدين الإسلامي (أو عدم موافقته) على وجود سلطة تدعي لنفسها العصمة والتأييد اللاهوتي، وعدم الخطأ، وتصادر على البشر والمجتمع حرياتهم وكراماتهم وتتحكم في مصائرهم ووجودهم بالرغم من أن الخالق نفسه قد منحهم نعمة العقل والتفكير وأودع فيهم عنصر الإرادة والقرار، وأعطاهم القدرة على تمييز الخطأ عن الصواب، مما يعني أن الدين عموماً يقف في جانب إعطاء الناس خياراتهم العملية الحرة –بما فيهم من آلة تفكير ووعي وعقلنة- لبناء حياتهم وإدارة مختلف شؤونهم وأنظمتهم الوجودية السياسية والاجتماعية وغيرها..

من هنا اعتقادنا أن الإسلام -كما نفهمه من حيث أن فيه تراثان، تراث الشريعة الذاتية كما هي في نصها المقدس الأصلي، وتراث الفهم والوعي البشري لها، الذي هو عبارة عن معرفة بشرية في حالة تجدد وسيرورة وتطور زماناً ومكاناً بالنظر لتطورات وتغيرات الحياة والعصر- لا يعيش مشكلة أو أزمة معرفية كبرى تجاه العلمنة كفكرة سياسية أو حتى كاتجاه فلسفي، لأنه هو نفسه يتحرك على منحى العلمانية من حيث أنه يؤيد خيارات البشر، ويرفض احتكار السلطة لأحد تحت أي مسمى كان، ولا يتبنى “التراتبية الاكليروسية” الدينية المعروفة.. ولا يحصر الحكم -بجميع مستتبعاته- في اتجاه أو طبقة محددة..
وقد رأينا أنه -في كل تاريخنا الثقافي العربي والإسلامي- لم تتكرس حالة طبقية خاصة برجالات الدين، متفردة زماناً ومكاناً، ومشرعنة بشرعية النص الديني، بل كل ما كان هناك هو علماء دين يفسرون النصوص، ويشرحون الأحاديث، ويقدمون الفتاوى، فيخطئون فيها وويصيبون، ويتصرفون في الواقع من حيث أنهم أفراد مندمجون في واقعهم، وليسوا كفئة صاحبة امتياز “بطركي” خاص، بالرغم من بعض مظاهر تلك الحالة الدينية الأرثوذكسية المتناثرة في داخل اجتماعنا الديني هنا وهناك، ولكنها حالات نادرة يغلب عليها الطابع الذاتي لا العام، وهي محصورة كماً ونوعاً..

وعندما يقول البعض بأن هناك أوامر وإلزامات نصية دينية (أحكام وقواعد شرعية) تجبر المسلم على الخضوع لها، وقد تكون على نقيض التزاماته الواقعية (العلمانية) المتجددة الأخرى، فهذا لا ينتقص من فكرتنا حول علمانية الإسلام، لأن الفرد الملتزم بالدين عندما يتبنى رأياً دينياً معيناً حول أمر ديني محدد، فإنه يتبناه بإرادته ووعيه واختياره، من دون فرض أو قسر أو إكراه من أحد، حتى من الدين ذاته، خاصة عندما ينتهي هذا التبني الحر -تجريبياً وواقعياً- إلى النجاح المنشود.. وهذا لا يضر أصلاً بالقانون العلماني المفترض أنه يقود حركية الدولة، وهو يشبه حالة أن تختار أو تتبنى دولة أو أمة ما دستورها الناظم لشؤونها المتنوعة لتعمل بموجبه في الحياة من دون أن يتبنى هذا النص الدستوري إنشاء طبقة تختص بالقداسة تتحصن وراء أو تحت سقف الدستور..

إن العلمانية والإسلام يلتقيان في فكرة الحرية والاختيار الفردي الحر، بالرغم من وجود نصوص دينية -غير محكمة- عديدة توحي بعكس ذلك عندما يتم تفسيرها وتأويلها من قبل كثير من علماء الدين المنتفعين والمتكسبين على هذا النحو القدري الجبري، بهدف الإبقاء على حالة “الأصالة الدينية” و”صفاء الهوية النقية” المزعومة، والتي لم تجد لها أصداء قوية في الواقع العربي المجتمعي العام.. حيث أن العرب والمسلمين مندمجون كلياً في حداثة العصر، ولو من باب تبني حداثة الشكل دون حداثة المفهوم والنسق الثقافي والفلسفي الحضاري، فهذا الأخير يحتاج إلى وقت طويل، ودونه مراجعات نقدية وحفريات معرفية عسيرة.. المهم أن اجتماعنا الديني بدأ يتغير سياسياً لتبني خيارات سياسية تقوم على فكرة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وهذا أمر حيوي وتطور نوعي كبير للغاية.. يجب التأسيس الجدي عليه.. ومرده أساساً إلى حالة الانفتاح على تيارات الغرب الثقافية والسياسية المعاصرة، والتفاعل الكبير الذي نجم عن احتكاك كثير من نخب ومفكري الحالة الإسلامية مع واقع الغرب السياسي والفكري الحديث، ورؤيتهم عن كثب للنجاحات الباهرة التي حققتها تجربة الغرب “العلماني” الأوروبي والأمريكي على صعيد العلم والتجربة والتقنية والتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي، مقارنةً بالطبع مع تأخر مجتمعاتهم وتخلفها وارتكاسها الحضاري الكبير..

وعندما نقول بأن الدين الإسلام علماني السبيل والتوجه والسلوك، فنحن نستند أساساً على مقولات ونصوص دينية نهائية تعتبر أن الحرية هي خيار الناس وحقهم الأساسي في الإيمان والكفر، وهذا من أهم حالات الاختيار الذاتي الفردي.. (..فمن شاء فيؤمن ومن شاء فليكفر).. (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء).. (..إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).. (الناس أدرى بشؤون دنياهم).. (متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً..)..ووالخ.
 من اعتقادنا الجازم بأن بواعث النهضة العربية والإسلامية الأساسية المطلوبة على مستوى الذات والموضوع، لن تشتعل من جديد إلا بإعادة الاعتبار لسؤال وفكرة وقيمة الحرية ذاتها باعتبارها قيمة القيم الدينية.. وإذا ما حدث هذا النهوض من دون فكرة وقيمة الحرية -وهو لن يحدث- فلن يتعدى حدود إثارة الصراعات، وإيقاظ الهويات النائمة المغلقة قومياً وعرقياً ودينياً..



المصدر:منبر الحرية،23 ديسمبر /كانون الأول 2013
شاركه على جوجل بلس

عن Editor

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق