مقالات | في التعايش والتسامح الديني بقلم محمد الدعمي.


بقلم:محمد الدعمى
لا يمكن للمرء أن يخفي شعوره بالحيرة حيال ما يذهب إليه البعض من رأي غريب حول العمل لتحقيق “مصالحة” بين الإسلام والمسيحية. الكلام عن “المصارحة” ثم المصالحة بين هذين الدينين الكبيرين (باعتبار عدد الأتباع والإنتشار الجغرافي) تنطوي على وجود ثمة “خصومة”. ولا يدري المرء من أين أتت هذه الخصومة: هل هي من أصول وسيطة تضرب بجذورها في عصري الفتوحات الإسلامية ثم الحروب الصليبية، أم أنها من أصول معاصرة متطرفة تشتق فكرة العمل السياسي من إفتراض وجود صراع ديني؟ هذه أسئلة تستحق المناقشة، ذلك أنها تفرض على الصراعات الجارية اليوم أطراً دينية وحيدة الجانب. وهذه ليست حقيقة أو جوهر الأمر.
إن فكرة “الخصومة” بين الإسلام والمسيحية لا يمكن أن تكون مقبولة إلا بحسب معايير مختلة وخطيرة تنتشر هذه الأيام، ومن أهمها المعيار المعتمد على تقليص صراع الحضارات أو الحوار الثقافي إلى جزئية دينية مبتسرة ومخلة. فإذا ما كان هذا التقليص المشوب بالعصبية الطائفية وبالخلل يعتمد الإختلاف في الأنظمة الدينية، نكون قد قدنا أنفسنا نحو خصومات جديدة لسنا بحاجة إليها ولا تخطر على بال أحد. إن ثنائية التنافر/الخصومة قد تقودنا إلى حال من نوع أننا في خصومة مع الديانات العالمية الكبرى الأخرى كالهندوسية والبوذية والكونفشيوسية، من بين سواها من الأنظمة الدينية القديمة والتي يحتضنها الملايين من البشر. ولكننا ندرك جيداً أننا كمسلمين لسنا أعداء للهندوس ولا للبوذيين ولا للقبائل البدائية التي تؤمن بأنظمة روحية من أنواع مختلفة. إذاً، هل تنطلق المصالحة مع المسيحية من حقائق جغرافية/تاريخية قادت إلى إرتطامات بين كينونات مسلمة وأخرى مسيحية، نظراً لحقائق الجوار الجغرافي بين العالمين الإسلامي والأوربي المسيحي. ولنا في فتح الأندلس والبقاء العربي/الإسلامي المتحضر في شبه جزيرة إيبريا لثمانية قرون نموذجاً للطبيعة “الدورية” للتاريخ التي ترفع الأمم وتخفضها (حسب معايير التفوق والتقدم) على إيقاع أنماط تكرار تقدمها حركة الزمن في تيار التاريخ. ولنا، ثانية، في العصر الذهبي للكولونياليات الأوربية نموذجاً آخر يتغذى على حقائق وقوع العالم العربي والإسلامي تحت إحتلالات ووصايات إمبراطوريات أوربية، كبريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا، ذات تركيبات سكانية مسيحية.
ولكن لماذا يخلط المرء بين التفوق الذي تفرزه حركة التاريخ عبر هرمية وجود الأمم المتنوعة من ناحية ثانية، وبين التنوع الديني، من الناحية الثانية. مثل هذا الخلط يمكن أن يقودنا إلى مشاكل فكرية وسياسية يصعب الإفلات منها. إن الأدلة عديدة على أن حركة الإستعمار الأوربي كانت تتحاشى الإحتكاك بالإسلام، ديناً ونظاماً روحياً وإجتماعياً. بل أن اية دراسة متعمقة لتاريخ الإمبراطورية البريطانية في الهند تعكس إنحيازاً واضح المعالم من قبل الإدارة الإمبراطورية البريطانية للمسلمين الهنود على حساب الهندوس. وقد كرس اللورد ماكولي Macaulay، برغم نظرته الدونية للحضارات الشرقية عامة، هذا الإنحياز عندما وقف أمام الإختيار بين المسلمين والهندوس (في مناسبة خلافية) داعياً إلى نصرة المسلمين لأنهم “أقرب إلى معتقداتنا”، بمعنى أنه إعتمد عقائداً مثل التوحيد والإيمان بالآخرة وسواها من العقائد الدينية المتشابهة مع العقائد المسيحية كتبرير لذلك الإنحياز. وتدل المدونات التاريخية للإمبراطوريات الأوربية أنها كانت تتحاشى وبدقة متناهية الإساءة للإسلام في الأمم التي فرضت عليها الوصاية. لقد كان ضباط الإحتلال يسارعون دائماً إلى الإتصال بطبقة العلماء المسلمين من أجل تهدئة المخاوف الدينية وتجنب الإحتكاكات ذات الطابع الطائفي. لذا لم تعتمد أهم حركات التحرر من الإستعمار الأوربي على خطاب ديني وحيد الجانب.
إن الجدل الذي إستعر في العصر الذهبي للإمبراطورية البريطانية حول الإسلام إنما كان مهماً للغاية. ويمكن تتبعه من خلال السجال الذي دار بين المستشرق المهم رتشارد بيرتن Burton (أفضل مترجم لألف ليلة وليلة) وبين التبشيريين. لقد دعا التبشيريون الإنجيليون إلى أن يسبق المبشرون جنود الإحتلال البريطاني في الأصقاع الأفريقية التي يتم إحتلالها. وعلى نحو معاكس لذلك، دعا العلمانيون (ومنهم بيرتن نفسه) إلى أن يسبق الجندي المبشرين، خشية إثارة الحساسيات الدينية. وهذا ما حدث فعلاً، بالرغم من أن الخوف الهاجسي الذي كان يستشعره رجال الدين في بريطانيا وفي سواها من الدول الأوربية حيال الإنتشار السريع للإسلام في أفريقيا وجنوب شرقي آسيا، خاصة بين القبائل الوثنية. بيد أن علينا أن نتوقف عند حقيقة إستبعاد التبشير الديني المسيحي من “وليمة الإستعمار” عبر القرنين التاسع عشر والعشرين.
لم تكن الإدارات الإمبراطورية في باريس أو لندن ترنو إلى “سحق” الإسلام، ديناً ونظاماً إجتماعياً، ذلك أنها كانت تريد الهيمنة الإستعمارية والإقتصادية، وليس إلحاق “الهزيمة” بدين معين. والأدلة كثيرة على ذلك، ولكن أهمها كان قد قدمه أول المستعمرون القادمون إلى شرقنا العربي الإسلامي، نابليون بونابرت، الذي سارع فور وصول القاهرة إلى الإدعاء بأنه قد إعتنق الإسلام، واضعاً العمامة على رأسه ومتردداً على بعض الزوايا الصوفية هناك! لقد كان الجنرال الفرنسي يتصرف في مصر على أساس مصالح باريس، وليس على أساس مصالح الفاتيكان الذي تهيمن عقائده الكاثوليكية على أكثرية الشعب الفرنسي.
إن البناء على إفتراض خصومة أو نزاع ديني إسلامي / مسيحي قد يقودنا إلى معضلات خطيرة أخرى إذا ما وسعنا مداركنا، ومن أهمها معضلة طريقة التعامل مع الأقليات المسيحية الموجودة في العالم العربي الإسلامي، تلك الأقليات التي لا تشوب وطنيتها ودورها الإجتماعي البنّاء اية شائبة. والأدلة على ذلك أكثر مما يتوقع المرء. بيد أنه من المهم إستحضار نظرية الكاردينال “جون هنري نيومن” Newman Cardinal في كتابه المهم (تصويرات تاريخية: الترك وعلاقتهم بأوربا) Historical Sketches، ذلك أنه كان يصب جام غضبه على المسيحيين الشرقيين (الأتراك والعرب) لأنهم كانوا أخطر أعداء الكنيسة الكاثوليكية (حسب تعبيره) عبر سنوات الحروب الصليبية. لذا فأنه كان يكنيهم بأقسى النعوت، ذاهباً إلى أنهم كانوا أكثر خطورة في الحملات الصليبية على الأوربيين، مقارنة بالمسلمين أنفسهم. هذا الرأي هو الذي قاد نيومن إلى خلاصة مفادها أن الحملات الصليبية نفسها كانت قد فقدت بعدها الديني، الأمر الذي يبرر رأياً آخر يفضي إلى أن تشجيع الملوك الأوربيون للحملات الصليبية كان قد نبع، ليس من إيمأنهم الديني، وإنما من شعورهم بضرورات عسكرة المجتمع والتخلص من فائض القوة وطاقات التمرد من خلال إطلاق الحملات الصليبية نحو عالم آخر وتحت شعارات دينية عاطفية. وهكذا فقدت الحملات الصليبية، حسب هذا الرأي الحصيف، حتى معناها الديني لتغدو إجراءً سياسياً يعكس تحالف السلطة مع الكنيسة لخدمة أهداف أوربية داخلية لا صلة حقيقية لها ببيت المقدس، الأمر الذي يفسر الإحترام والتقدير العالي الذي خص به ملوك أوربا القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي، حيث أنهم عدّوه مثالاً لفروسية رفيعة تفتقدها أوربا الآرية المسيحية آنذاك!
إن التاريخ يعكس شيئاً مثيراً للدهشة في تعامل الثروة والسلطة مع العواطف الدينية، حيث يوظف رأس المال هذه المشاعر لخدمته. وهذا يقود المرء إلى أن آليات الصراعات التي جرت وتجري بين أقاليم العالم الإسلامي والجوار الغربي لم تكن في جوهرها دينية، بقدر ما كانت ذات طبيعة سياسية وإقتصادية ركبت موجة العصبيات الدينية والطائفية لخدمة أغراضها الخاصة. وهذا حسب المعطيات المعاصرة الأكثر دقة هو ما يجري اليوم، ذلك أن رأس المال، الباحث عن المكاسب المادية، يرنو إلى دفع العالم نحو غياهب الصراعات الدينية والطائفية من أجل إرتقائه قمة الهرم الكوني.


المصدر: منبر الحرية، 1 مارس 2009
شاركه على جوجل بلس

عن Editor

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق