مقالات | العلمانية هي دولة الله بقلم أحلام طرايرة.



أحلام طرايرة

ذات مرّة صُدم بعضُ معارفي لاختياري “علمانية” على استفتاء على فيسبوك حول “هل أنت مع دولة علمانية أم إسلامية؟” وسألني أحدهم في لقاء بعدها: هل أنتِ حقاً مع الدولة العلمانية؟ واستغربت سؤاله وأجبته بسؤال آخر: هل أنت متأكد من معنى أن تكون الدولة علمانية؟

الكثير من المسلمين يلعنون العلمانية والعلمانيين بناءً على ما قاله بعض من يطلق عليهم “شيخ” أو ” داعية” ودونما أدنى فكرة عن حقيقتها وجوهرها. وأعتقد أن الإسلامويين نجحوا في برمجة الوعي الجمعي العربي لربط العلمانية بكل ما هو شرّ بالتركيز على مفهوم أن العلمانية قائمة على معاداة الدين وإقصاؤه وإلغاؤه من حياة الشعوب، آخذين بعين الاعتبار تعلّق الشعوب العربية بالدين كجزء أساسي من بنيتها الاجتماعية ومن حياتها اليومية وأنها اعتمدت على مدى قرون أن تُسلّم بما يحكم به “رجال الدين” على أنه توجيهات مباشرة من الله نفسه. فأصبحت الدعوة للدولة العلمانية في العالم العربي كمن يدعو لدولة يحكمها الشيطان، وباتت العلمانية كياناً نقيضاً للدين وقطبا آخراً للمعادلة، فإما أن تكون علمانياً أو إسلامياً وأن لا التقاء بين المفهومين. نعم، نجح الجهل في ترسيخ هذه الفكرة بل وأصبح نعت “يا علماني” شتيمة مهينة ووصمة في دين المشتوم يطلقها مدّعي التدين على دعاة الدولة المدنية ومناهضي المشروع الإسلاموي في البلدان العربية.

قد يكون عصياً على السواد الأعظم من مسلمي العالم العربي أن يدركوا أن الدولة المدنية أو العلمانية في حقيقتها منصفة للدين وقريبة لجوهره وروحه أكثر من الدولة الإسلامية التي يروّج لها الإسلاميون. وأنهم – أي الإسلاميون – هم أول من أقصى الدين وباعد بينه وبين الحياة اليومية للناس وفصله عن العلم وجعل منه كياناً منفصلاً وغريباً بل وبحاجة لقوة وعصا لفرضهِ كأسلوب حياة. ويطول الشرح في تاريخ التعامل مع الدين كأداة لتقييد الناس وكبت لحرياتهم التي أعطتهم الطبيعة الحق بممارستها وأقرتها “الكتب المقدسة” نفسها لهم، والتي نجح الكهنة والفقهاء بنسخها فيما بعد بطرقهم الخبيثة المعروفة لكل ذي بصيرة حيث كفلت بذلك جرّ الناس إلى حيث هم الآن من تزاوج للضنك بالتدين، وللفجور بالتحرر. وبات صعباً عليهم حتى أن يفهموا ماهيّة الدولة التي ترضي الله حقاً. ونسوا أن يسألوا سؤالا صغيرا: كيف تكون دولة الله؟ وإذا ما بحثنا في نظام الدولة العلمانية قياسا على النماذج الموجودة في العالم اليوم وفي نظام الدولة الإسلامية بالشكل الذي يدعو إليه الإسلاموين وقياساً على النماذج الموجودة اليوم أيضاً، فأيهما ستكون دولة الله، أو الدولة التي سترضي الله، رب كل العباد من مسلمين وغير مسلمين؟ سؤال صغير ومهم لا يسأله هذا السواد الأعظم، ويكتفون بالانسياق لزعيق المنادين بـ “سنعلنها إسلامية” دونما أي نظر لما يعنيه هذا التهديد والوعيد، وكأن الدولة الإسلامية هي عقاب شديد سيلحق بمن ستحكمهم هذه الدولة، فهل يرى الله دولته على هذا النحو؟

أليس الأصل في دولة الله أن تكون دولة عدل ومساواة ومراعاة لجميع الحقوق وأمان للناس جميعاً؟ وفي هذه الحالة ما الذي سيخيف الناس منها ليكون مشروع إقامتها مبنياً على التهديد بها كقدر عصيب؟ لكن الإجابة على السؤال الثاني ستكون سهلة لو ألقينا نظرة سريعة على حال الدول التي يسمونها إسلامية وحال الدول التي تحاولجماعات إسلاموية إقامة نواة لدولة “الخلافة” فيها. فلا نرى سوى نظام قمعي ترهيبي خانق يسلب الإنسان أدنى حقوقه التي كفلها له الله نفسه، وأولها حقه في الإيمان أو الكفر! ونرى أن هذا النظام يطبّق في الواقع على العوام أكثر منه على ذوي المال والنفوذ. وأنه نظام في حقيقته يحتكم للمعادلات السياسية الدولية أكثر منه لقيم العدالة والحقوق، وأنه وبشكل فاضح يفصل بين الدين والسياسة فتكون قرارات هذه الدول مقرونة بمصالحها السياسية أولا وأخيرا بغض النظر عن رأي الدين في ذلك، ويفصل أيضاً بين الدين والعلم فيتعامل معهما كشيئين لا يلتقيان فهلال بداية رمضان ونهايته مثلا يحكمه شيء اسمه “الرؤية الشرعية” وليس الحسابات العلمية التي تجزم بمواعيد بداية ونهاية الشهور القمرية بدون الحاجة لكل تلك البلبلة والفُرقة التي تفرضها هذه “الرؤية الشرعية”، وتدخل السياسة هنا بكل ثقلها فلا تتفق السعودية وإيران على موعد بداية رمضان أبداً ولا تحتفل الدولتين بعيد الفطر في نفس اليوم نهائياً في حين أنه كان من شأن العلم أن يوحّد قلبيّ الدولتين على عيدٍ واحد. فالعلم كما نراه هنا أكثر تديّنا من إيران والسعودية!

في الحقيقة، لا يمكن رصد “النظام الديني” على أرض الواقع في هذه الدول إلا من خلال أمرين: أولهما نظام العقوبات بما فيه من تجاوزات خطيرة على ما ورد في الدين نفسه وفي طريقة تطبيقها، وثانيهما الشرطة الدينية التي يؤسسها النظام الإسلاموي بهدف قمع الحريات وفرض التدين الشكلي على الحياة اليومية في الشارع ليس إلا، وأشدد على أنه تديّن صوريّ فالرجال يساقون إلى المسجد قسرا في مواعيد الصلاة وقد يؤدون صلاتهم بدون وضوء حتى، ويُفرض الحجاب (والنقاب) على النساء كرداء عفة قسري أيضا، فيما تنتشر أمراض مجتمعية خطيرة يفرزها هذا الكبت الممنهج والتي لا تدل فيما تدل على أن هذه المجتمعات هي مجتمعات متدينة فعلا. لهذا كله تكون الدعوة للدولة الإسلامية في الدول الأخرى على سبيل الوعيد.

لكن إذا ألقينا نظرة أخرى على النظم العلمانية، نجد أنها قائمة على أساس المساواة والعدالة الاجتماعية تُحفظ فيها حقوق الأفراد والجماعات، وتُحمى فيها الأقليات ولا يتم المساس في كنفها بحرية الإنسان وحقه في اختيار النهج الذي تسير به حياته بما لا يضر الآخرين وهي كلها قيم إنسانية عالمية وفي ذات الوقت من صميم الدين ودعوته. وهي دول قائمة على أساس يكفل للجميع حقهم بتسويق فكرهم، ولهذا يمكن لشخص من الأقلية المسلمة أن يدعو الناس لدينه في اوروبا العلمانية، فالدولة العلمانية لا تحارب الدين ولا تقصيه ولكنها ببساطة لا تحكم الناس بعصاه. فهي تعطي الحق المتساوي لجميع مواطنيها أن يدينوا بما يطمئن له قلوبهم أو لا يدينوا بأي شيء وهذا ما أقرّه الإسلام قبل عبث يد الفقهاء والسياسة فيه. الدولة العلمانية ببساطة ترفع أيدي تجار الدين عن الدولة وفي الوقت نفسه تلزم نفسها بنظام عادل يهتم بتحقيق حياة كريمة لجميع الناس بصرف النظر عن أية اختلافات عرقية ودينية وفكرية. وهذا ما يريده الله من دولته في الحقيقة، أن تُحفظ للإنسان كرامته وأن يُحترم عقله وكيانه المستقل وأن يتوجه الإنسان إليه –أي الله- طوعاً لا كرهاً.


برأيي، الدولة العلمانية هي أقرب لدولة الله من الدولة الإسلامية بالصورة التي يروّج لها دعاة الخلافة وتطبيق “الشريعة الإسلامية”، ولنتأمل العالم حولنا لنعرف أين يقيم الله حقا، في السعودية أم في السويد.

الحوار المتمدن
شاركه على جوجل بلس

عن Editor

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق