كيف أعاد أول انقلاب عسكري في سوريا تشكيل المشهد السياسي الداخلي والإقليمي؟
محمد الشماع
في فجر يوم 30 آذار/مارس 1949، استيقظ السوريون على حدث غير مسبوق في تاريخهم الحديث: انقلاب عسكري قاده حسني الزعيم، قائد الجيش السوري آنذاك، ضد الرئيس شكري القوتلي وحكومته. لم يكن هذا الانقلاب مجرد تغيير في السلطة، بل كان بداية لمرحلة جديدة في السياسة السورية، حيث أصبح الجيش لاعبًا رئيسيًا في الحكم، وأصبحت الانقلابات العسكرية أداة للتغيير السياسي في البلاد.
لكن لفهم هذا الحدث، لا بد من النظر إلى السياق الداخلي والخارجي الذي أدى إليه، وتحليل العوامل التي جعلت سوريا عرضة لهذا التحول الجذري.
سوريا ما بعد الاستقلال: أزمة سياسية تبحث عن مخرج
بعد استقلال سوريا عن فرنسا عام 1946، دخلت البلاد في حالة من عدم الاستقرار السياسي، حيث تناوبت الحكومات بسرعة، وعانت البلاد من صراعات حزبية حادة بين القوى الوطنية والقومية واليسارية. كان النظام السياسي هشًا، ولم يتمكن من تحقيق استقرار طويل الأمد.
زاد الوضع تعقيدًا بعد هزيمة الجيوش العربية في حرب فلسطين عام 1948، حيث فقد السوريون الثقة في القيادة السياسية، وخاصة الرئيس شكري القوتلي، الذي كان يُنظر إليه على أنه غير قادر على إدارة البلاد في ظل التحديات المتزايدة.
في هذا المناخ المضطرب، بدأ الجيش السوري يشعر بالإهانة بسبب الانتقادات الموجهة إليه من السياسيين، مما خلق بيئة خصبة لتدخل العسكريين في السياسة. حسني الزعيم، الذي كان قائدًا للجيش، رأى في الانقلاب فرصة لاستعادة هيبة المؤسسة العسكرية، وإعادة ترتيب المشهد السياسي بما يخدم مصالح الجيش.
حسني الزعيم: رجل المرحلة أم أداة لمخططات خارجية؟
لم يكن حسني الزعيم مجرد ضابط طموح يسعى للسلطة، بل كان شخصية مثيرة للجدل، تحيط بها تكهنات حول علاقاته بالقوى الدولية والإقليمية.
1. الدور الأمريكي في الانقلاب
في تلك الفترة، كانت الولايات المتحدة تسعى لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية. تشير بعض المصادر إلى أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) لعبت دورًا في دعم الانقلاب، حيث رأت في حسني الزعيم شخصية يمكن أن تحقق الاستقرار في سوريا وتدعم المصالح الأمريكية.
2. فرنسا وبريطانيا: إرث استعماري وتأثير مستمر
رغم انسحاب فرنسا من سوريا، إلا أنها ظلت تراقب التطورات السياسية، بينما كانت بريطانيا قلقة من أي تغيير قد يؤثر على مصالحها في المنطقة. كانت سوريا جزءًا من الصراع بين القوى الاستعمارية القديمة والقوى الجديدة التي تسعى للهيمنة على الشرق الأوسط.
3. إسرائيل واتفاقية الهدنة
كان توقيع اتفاقية الهدنة بين سوريا وإسرائيل عام 1949 أحد نتائج الانقلاب، مما أثار تكهنات حول دور إسرائيل في دعم التغيير السياسي في دمشق. حسني الزعيم كان أول زعيم عربي يوقع اتفاقية هدنة مع إسرائيل، مما جعله شخصية مثيرة للجدل.
4. الصراع الإقليمي: مصر والسعودية والعراق
دعمت مصر والسعودية حسني الزعيم في البداية، لكنه انقلب لاحقًا على مشاريعهما الإقليمية، مما أدى إلى الإطاحة به بعد أشهر قليلة. في المقابل، كانت العراق والأردن تسعيان إلى مشروع "الهلال الخصيب"، الذي كان يتعارض مع توجهات الزعيم.
---
تنفيذ الانقلاب: لحظة فارقة في التاريخ السوري
في الساعات الأولى من صباح يوم 30 آذار/مارس 1949، تحركت وحدات الجيش السوري بقيادة حسني الزعيم للسيطرة على القصر الرئاسي والمؤسسات الحكومية الرئيسية. تم اعتقال الرئيس شكري القوتلي، وأُجبر على الاستقالة، ليتم إعلان حسني الزعيم رئيسًا للبلاد.
بعد استيلائه على السلطة، بدأ الزعيم في تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية، لكنه واجه معارضة قوية من القوى التقليدية في البلاد، مما أدى إلى عزله بعد أقل من خمسة أشهر، حيث أُطيح به في انقلاب آخر بقيادة سامي الحناوي في 14 آب/أغسطس 1949.
إرث الانقلاب: كيف غيّر حسني الزعيم السياسة السورية؟
1. بداية عهد الانقلابات العسكرية
فتح انقلاب الزعيم الباب أمام سلسلة من الانقلابات العسكرية في سوريا، حيث شهدت البلاد أكثر من 20 انقلابًا ومحاولة انقلابية حتى عام 1970. أصبح الجيش لاعبًا رئيسيًا في السياسة السورية، مما أدى إلى تراجع دور الأحزاب المدنية.
2. تغييرات دستورية وسياسية
ألغى الزعيم الدستور السابق وأصدر دستورًا جديدًا يعزز سلطته، لكنه لم يتمكن من تطبيقه بسبب الإطاحة به سريعًا. أدى الانقلاب إلى تغييرات في العلاقات السورية الخارجية، حيث اقتربت سوريا من الولايات المتحدة لفترة قصيرة قبل أن تعود إلى سياسات أكثر استقلالية.
3. تأثيره على الفكر السياسي العربي
كان انقلاب الزعيم نموذجًا للانقلابات العسكرية التي انتشرت لاحقًا في العالم العربي، مثل انقلاب جمال عبد الناصر في مصر عام 1952 وانقلاب البعث في العراق وسوريا لاحقًا. عزز الانقلاب فكرة أن الجيش يمكن أن يكون أداة للتغيير السياسي، مما أدى إلى تكرار السيناريو في دول عربية أخرى.
خاتمة: هل كان انقلاب الزعيم ضرورة أم خطأ تاريخيًا؟
كان انقلاب حسني الزعيم نقطة تحول في تاريخ سوريا الحديث، حيث أدخل البلاد في مرحلة من عدم الاستقرار السياسي بسبب تدخل الجيش في الحكم. كما كان انعكاسًا للصراعات الإقليمية والدولية التي جعلت سوريا ساحة للتنافس بين القوى الكبرى.
ورغم أن حكم الزعيم لم يدم طويلًا، إلا أن أثره امتد لعقود، حيث أصبح الانقلاب العسكري أداة رئيسية في السياسة السورية والعربية. فهل كان هذا الانقلاب ضرورة فرضتها الظروف، أم أنه كان بداية لمسار سياسي كان يمكن تفاديه؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق