مقالات | العلمانية من منظور الدولة الوطنية ..بقلم جاد الكريم الجباعي


بقلم:جاد الكريم الجباعي

يجمع الباحثون والمفكرون على أن قيام دولة وطنية ديمقراطية حديثة مشروط بتفكك البنى والعلاقات التقليدية، ما قبل المدنية وما قبل الوطنية، وتحرر الأفراد من ربقتها، والحيلولة دون أن ينتج من أي من هذه العلاقات التقليدية نتائج سياسية، وهي علاقات وهمية في جميع الأحوال، تخفي العلاقات المادية والأخلاقية الواقعية أو تقنِّعها.
السبيل إلى تفكيك هذه البنى والعلاقات هو اندراج الأفراد في بنى وعلاقات حديثة، مهنية ونقابية وحزبية وتنظيمات مدنية مختلفة .. ذات مضامين اجتماعية / اقتصادية وثقافية وسياسية وأخلاقية، يعيِّنها نمو الإنتاج الاجتماعي بجميع منطوياته المادية والروحية، من دون أن يتخلوا عن شروطهم المسبقة، الإثنية أو الدينية أو المذهبية، وتحديداتهم الذاتية إلا بإرادتهم. نمو الإنتاج الاجتماعي، المادي والروحي، بجميع فروعه ومنطوياته هو كلمة السر التي تفتح مغاليق الدولة الوطنية الديمقراطية. ذلكم هو سر المجتمع المدني، مسرح التاريخ الواقعي، بتعبير كارل ماركس.
لقد أسفرت الثورات الشعبية في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية عن إجماع على الدولة الوطنية، يتجاوز شعارات المرحلة المنطوية وأيديولوجياتها جزئياً أو كلياً، وغدت الديمقراطية مطلباً تتردد أصوات المطالبين بها من تونس إلى بغداد أو من "المحيط إلى السد" بتعبير عبد الله العروي. لكن المفارقة التي نلح على إبرازها ونقدها وتفنيدها دوماً تكمن في الإجماع على الدولة الوطنية الحديثة، وعلى الديمقراطية، من جهة، والمحافظة على بنى المجتمع التقليدي (المجتمع الأهلي) وعلاقاته وثقافته التي كانت ولا تزال تغذي الاستبداد وتسهم في إعادة إنتاجه من جهة أخرى.
أساس هذه المفارقة هو الموقف الموارب من الحداثة، الذي أنتج ضروباً من التلفيق والتلبيس تجلت في أيديولوجية الحركة القومية العربية خاصة، ولم تبرأ منها لا حركات الإسلام السياسي المعتدلة التي تنشد "دولة مدنية"، هي نسخة محسنة عن "دولة العلم والإيمان"، ولا الحركة الاشتراكية التي نسبت نفسها إلى الماركسية. لقد تبين بالتجربة أن هذه الحركات مناهضة للدولة الوطنية الحديثة، ومناهضة للديمقراطية، وليست سوى نسق لتوليد الاستبداد. فلا يستقيم وهذه الحال أن ننشد دولة وطنية ديمقراطية وندير ظهورنا للحداثة، ونلعن من أسسوها في الفكر والسياسة والأخلاق، وجسدوها في الواقع، أو نتجاهل أن منجزات الحداثة غدت منجزات إنسانية عامة، بكل ما لها وما عليها. الدولة الوطنية الديمقراطية منجز غربي، فإما أن نأخذه بجميع منطوياته الفكرية والسياسية والأخلاقية، وإما أن نعود القهقرى إلى الاستبداد الذي ألفنا وألفناه.
يجب الاعتراف أن ثقافتنا التقليدية وتراثنا لا يقدمان لنا أي عون في قضية الدولة أو قضية المجتمع المدني أو قضية الديمقراطية والقضايا المتعلقة بهذه جميعاً. ويجب الاعتراف، بالمقابل، بأن الدولة الوطنية الديمقراطية تنتمي إلى نسق متكامل من المبادئ والمفاهيم تقوم بينها علاقات ضرورية، بحيث لا تقوم أي منها بغير الأخريات، كالمواطنة، بثلاثة أركانها: المساواة والحرية والمشاركة، وسيادة القانون وسيادة الشعب والشرعية الدستورية وفصل السلطات واستقلال القضاء وتداول السلطة سلماً .. إلخ.
لقد تجلت الحداثة واقعياً في وحدة المجتمع المدني والدولة السياسية، أي الدولة الوطنية الحديثة، على نحو يستحيل معه قيام دولة ديمقراطية على أرضية تقليدية، أي على أرضية مجتمع منقسم على نفسه انقسامات عمودية، إثنيات وعشائر وأدياناً ومذاهب متحاجزة ومتفاصلة كالزيت والماء، وفي مناخ ثقافي وأخلاقي تقليدي هو نسق لتوليد الاستبداد، على الصعيدين السياسي والديني. فإذا كانت الديمقراطية حكم الشعب نفسه بنفسه، وفق التعريف البسيط المستمد من الدلالة اللغوية للمفهوم، فإن الشعب مفهوم سياسي يرمز إلى مواطنين أحرار ومواطنات حرائر بالطبع، لا إلى مسلمين ومسيحيين ويهود، على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم ولا إلى عرب وكورد وأثوريين وما شئت من إثنيات، ولا إلى عشائر وعائلات ممتدة. ومن ثم فإن جمعاً حسابياً لإثنيات وعشائر وأديان ومذاهب لا يساوي شعباً، ولا يساوي أمة حديثة، فكيف ستبنى الدولة الحديثة، ومن أين ستأتي الديمقراطية، اللهم إلا إذا كان المقصود "ديمقراطية توافقية"، كالتي في لبنان والعراق، وليست من الديمقراطية في شيء؟!
بل نذهب إلى أبعد من ذلك، إلى ضرورة إعادة تعريف مفاهيم الأمة والشعب والوطن بدلالة مفهوم الدولة الحديثة وعلاقتها الجدلية بالمجتمع المدني الحديث، وندعي أن جميع أنظمة الحكم في العصور القديمة والوسطى لا ينطبق عليها مفهوم الدولة الحديثة، بما في ذلك المدن الدول ذات النظام الديمقراطي أو الجمهوري، عند اليونان والرومان وغيرهم، بحكم وضعية العبيد والنساء، على الأقل، فما بالك بالإمبراطوريات والممالك والإمارات. ومن ثم فليس من الحكمة في شيء تزيين "الدولة الإسلامية"، الإمبراطورية، واعتبارها "دولة مدنية" يمكن استلهامها في الوقت الحاضر استناداً إلى صورتها في الثقافة السائدة والتراث وفي المخيال الاجتماعي. ونعتقد أن حسن البنا كان واضحاً ومصيباً في وصف الإسلام بأنه "دين ودنيا ودولة، مصحف وسيف"، وأن مشروعه السياسي، الذي هو أساس جميع الحركات الإسلامية، واضح بما يكفي لاعتباره مشروعاً إسلاموياً سلفياً وأصولياً، مناهضاً للدولة الحديثة ومناهضاً للديمقراطية، مثله في ذلك مثل ما سمي "المشروع القومي العربي" والنظم الاشتراكية القومية التي خبرناها في غير مكان.
العلاقة الملتبسة بين الدين والسياسة في ثقافتنا وتراثنا لا تزال تحكم رؤية الكثيرين منا، بل رؤية معظمنا لما هي الدولة الحديثة وما هو المجتمع المدني. فما السبيل إلى اعتراف هؤلاء بأن الدين غير السياسة والسياسة غير الدين؟ ما السبيل إلى الاعتراف بأن الدين مجال الذاتية، أي مجال الإيمان، والسياسة مجال العلاقات الموضوعية التي تعينها نسبة القوى، وأن مبدأ السياسة الحديثة هو الشأن العام والمصلحة العامة، ومنهجها نفعي (براغماتي) دوماً، ولا يتسق في معظم الأحيان مع القيم الروحية والأخلاقية للدين؟ ما السبيل إلى إدراك حقيقة أن الدولة الوطنية الحديثة علمانية بطبيعتها ولا تحتاج إلى أيديولوجية علمانية؟ بل أكثر من ذلك ما السبيل إلى أن يدرك أهل الدين أن ما في الدين من قيم إنسانية قد تحقق بالفعل في الأسس الفكرية والأخلاقية للدولة الحديثة، ولا سيما في فكرة المواطنة، بركنيها الأساسيين: المساواة والحرية، اللتين تضعان المسؤولية الفردية، القانونية والأخلاقية، فلا تزر وازرة وزر أخرى؟
العلمانية مفهومة على أنها استقلال مجال الدين عن مجال السياسة، منجز إنساني من منجزات الحداثة، وهذه الأخيرة جملة عمليات أو سيرورات تاريخية، اجتماعية واقتصادية وثقافية جعلت وتجعل من عدة جماعات إثنية ودينية ومذهبية متفرقة ومتحاجزة مجتمعاً مدنياً حديثاً متدامجاً وموحداً، وشعباً، وأمة حديثة تنتج بنفسها أشكال حياتها، وفق شروطها التاريخية، (الزمانية / المكانية) وخصائصها الذاتية. فلا يمكن فصل العلمانية لا عن الإنسية وتساوي البشر في الكرامة الإنسانية، ولا عن المعرفة العلمية وتغير زاوية نظر الإنسان إلى عالمه، ولا عن اندماج العلم بالعمل، ولا عن الثقة بالعقل وقدرته على التوصل إلى الحقيقة أو على إنتاجها، ولا عن تفتح الفردية، بما هي حرية الفرد الإنساني واستقلاله، ولا عن أي من منطويات الحداثة الأخرى، ولا سيما تشكل المجتمعات المدنية الحديثة والأمم الحديثة والدول الحديثة
لا تزال العلمانية عندنا موضوع سجال ثقافوي، لا بين العلمانيين والتيولوجيين فقط، بل بين فريقين ممن يرفعون شعار الديمقراطية؛ أحد هذين الفريقين يدعي أن "العلمانية إشكالية زائفة"، أو نافلة في أحسن الأحوال، ولا تتصل بالديمقراطية من قريب أو من بعيد. ويربطها بعض هؤلاء بالأقليات، وبمثقفين يعرِّفونهم بشروط ولادتهم في أوساط أقلوية، إذ يُرمى هؤلاء المثقفون بمناهضة الإسلام بوجه عام، والإسلام السياسي بوجه خاص، إن لم يكن بمعاداة هذا وذاك. ويحتج بعض هؤلاء بأطروحة ياسين الحافظ الذي أطلق على الأقليات صفة "كسور الأمة"، لدى إشارته إلى "التكسر الاجتماعي الصلبي"، أو "نقض الاندماج القومي" بما هو معلم من معالم "التأخر التاريخي للشعب العربي"، فيمسخونه إلى مثقف إسلاموي.
أدعي أن الدولة الوطنية الحديثة، الجمهورية، بمعنى العمومية، علمانية بطبيعتها، لا تحتاج إلى أيديولوجية علمانية، أو أية أيديولوجية أخرى، لأنها، أي الدولة، شخص معنوي، سياسي وقانوني وأخلاقي، فوق الطبقات والفئات، ومحايدة حياداً تاماً إزاء عقائد مواطنيها، بخلاف السلطة ذات الطبيعة المزدوجة.
شعار الدولة العلمانية، الذي يرفعه بعضنا ضد شعار الدولة المدنية أو الدولة الدينية، مجرد شعار فارغ، لأنه يفترض أن الدولة يمكن أن تكون دينية، إسلامية أو مسيحية أو يهودية، وتظل مع ذلك دولة وطنية حديثة. ويندرج، من ثم، في باب السجال وصفِّ الكلام، كشعار الدولة المدنية أو الدولة الدينية المتناقض في ذاته[1]. والأسوأ منه وصف بعض المعارضين السوريين "الديمقراطيين"، المناهضين للعلمانية، "الجمهورية العربية السورية" الحاضرة بأنها "دولة علمانية"، ما يعني أنها دولة جميع مواطنيها بالتساوي، لا سلطة شمولية واستبدادية محدثة، أزهقت روح الدولة، وسمَّت نفسها "دولة البعث"، وجعلت من سورية "سورية الأسد"، ويعني من ثم أنها دولة وطنية حديثة، على خلاف ما يريدون. وهو وصف مستمد، على الأرجح، من الإسلاميين، إذ المعيار واحد، هو الطابع المذهبي للسلطة، بل لرئيس السلطة التنفيذية (رئيس الجمهورية) وضباط الجيش والأمن المتنفذين بالفعل، لكن الإسلاميين أكثر وضوحاً وأكثر حصافة. وكلاهما، الشعار والوصف ينمان على جهل بما هي الدولة، أو على مكر، وهذا أدهى. هل نستغرب بعد ذلك تشرذم المعارضة وتخلفها عن الشعب وانفصالها عنه؟! العلمانية صفة لأفراد أو جماعات لا صفة للدولة، لأنها لا تحدد الدولة ولا تعيِّنها، فهي كوصف الماء بأنه ماء. المجتمع المدني والدولة معاً هما "الإنسان مموضعاً" حسب ماركس، وأشكال التموضع أو التعين هي مؤسسات الدولة وسلطاتها، التشريعية والتنفيذية والقضائية.
أجل، الإسلاميون أكثر دقة وحصافة من الديمقراطيين المناهضين للعلمانية، لأنهم، أي الإسلاميين، يعتقدون أن الوطنية أو القومية، ولا فرق، مبدأ علماني، وهم محقون في ذلك، والديمقراطية مبداً علماني "مستورد من بلاد الكفار، ويعارضونه بالشورى. والمواطنة مبدأ علماني، لأنها تساوي بين المسلم وغير المسلم، أو بين المسلم السني والشيعي، "الرافضي"، وهم محقون أيضاً. الإسلاميون أكثر انسجاماً مع أنفسهم من هؤلاء الديمقراطيين الذين، على ديمقراطيتهم، يعتبرون "الدين هوية" و"الإسلام مجال عام"، ويطالبون باقتسام السيادة بين الدين والدولة. واللافت للنظر أن الذين يصفون "الدولة" السورية بأنها علمانية يصفونها هم أنفسهم بأنها طائفية، فلا يفرقون بين الدولة والسلطة ونظام الحكم، وهذه ثلاثة أشياء مختلفة مفهومياً وواقعياً، وليست شيئاً واحداً، كما في سديم الخطاب السياسي لهؤلاء الكتاب والمثقفين "المناضلين" الذين ختمت الأيديولوجيات "القومية" "والاشتراكية" و"الإسلامية" المناهضة للدولة الوطنية الحديثة، والمناهضة للديمقراطية، على قلوبهم وعقولهم[2]، الخطاب الذي تبدو فيه الدولة والسلطة والنظام شيئاً واحداً، وتبدو العلمانية والطائفية شيئاً واحداً. وليس مستهجناً بعد ذلك أن ينسب هؤلاء العلمانية إلى الأقليات، وينظِّروا لما يسمونه "تحالف الأقليات"، وأن الطائفية مقصورة على الأقليات، فيما الأكثرية المذهبية بريئة منها.
العلمانية هي طبيعة الدولة، بما هي فضاء عام، لا طبيعة السلطة السياسية، أي الحكومة، فلهذه الأخيرة طبيعة مزدوجة، عامة، لأنها سلطة الدولة ومكلفة تنفيذ القوانين العامة، وخاصة، لأنها تمثل الحزب الذي يفوز في الانتخابات بأكثرية مقاعد البرلمان، ويشكل الحكومة وحده أو متحالفاً مع غيره، فالحكومة إذاً هي حكومة الأكثرية والحكم حكم الأكثرية، لا حكم الشعب كله. لذلك كانت المعارضة ضرورية لحماية حقوق الأقلية السياسية وصون حريتها، وهي في الواقع الوجه الثاني للسلطة (في بعض البلدان تشكل المعارضة "حكومة ظل" تدرس جميع قرارات الحكومة وتراقب أداءها وترصد تجاوزاتها أو تجاوزات بعض أعضائها)، وغدت منظمات المجتمع المدني "غير الحكومية" ضرورية أيضاً للدفاع عن الحرية.
لقد فاز الإسلاميون في الانتخابات الأخيرة في كل من مصر وتونس، وألَّفوا الحكومة في تونس وقد يؤلفونها في مصر، فلو قاموا بأسلمة الدولة، أي بإلغاء طابعها العام، الجمهوري، كما قام البعثيون في سورية والعراق بتبعيث الدولة وتحويلها إلى مجال خاص، ستغدو "دولتهم" تناقضاً في ذاتها، وتنخفض إلى مجرد سلطة قهرية عارية، وسيفتحون أبواب الحرب الأهلية، كما حدث ويحدث في غير مكان. أسلمة الدولة لا تتحقق إلا بالقسر والإكراه والاستبداد والتسلط والقمع، وهي بالأحرى إعلان حرب أهلية، لا على غير المسلمين من "الكفار" فقط، بل على كثرة المسلمين، الذين تكفرهم الجماعات الإسلامية صراحة أو ضمناً، لأنهم ليسوا على صورتها ومثالها، ولا يرون رأيها، ولا يلتزمون تأويلها لما هو الإسلام.
تتجلى العلمانية واقعياً في المواطنة، بما هي منظومة حقوق مدنية وسياسية وواجبات أخلاقية والتزامات قانونية يتساوى فيها جميع مواطني الدولة، بغض النظر عن معتقداتهم وتحديداتهم الذاتية، وهي مناط الهوية الوطنية للفرد والجماعة والمؤسسات العامة أيضاً، حينما نقول حكومة وطنية وقضاء وطني وجيش وطني واقتصاد وطني .. إلخ. المواطنة مبدأ الدولة الحديثة (الجمهورية بمعنى العمومية) ومبدأ الديمقراطية وفضيلتها السياسية.
فساد الحكومة يبدأ دائماً بفساد مبدأ الدولة: ما أن يفسد مبدأ الدولة حتى تصير أفضل القوانين رديئة، وتتحول ضد الدولة؛ أما حين تكون المبادئ سليمة فإن للقوانين الرديئة مفعول القوانين الجيدة، قوة المبدأ تحمل وتجر كل شيء، حسب مونتسكيو.
مبدأ الجمهورية الديمقراطية، وفضيلتها السياسية يتجليان في المواطنة، والمواطنة الفعلية هي المشاركة في وضع القوانين، والحرص على احترامها وإطاعتها، فضلاً عن المساواة والحرية والمشاركة في حياة الدولة، أي تسلم الوظائف التشريعية والتنفيذية والقضائية. المساواة، هنا، مساواة في الحقوق المدنية والسياسية والواجبات والالتزامات القانونية، وتكافؤ في الفرص. والحرية تعني حرية الفرد في توجيه حياته الوجهة التي يريد، وحرية الرأي والتعبير وحرية الفكر وحرية الاعتقاد ... وحق المعارضة والاختلاف، وحق الثورة على الحكومة الجائرة، أو حق "الاستنجاد بالسماء"، وحرية منظمات المجتمع المدني، غير الحكومية واستقلالها. "فساد هذا المبدأ، مبدأ المواطنة، شر لا يُصلح أبداً، حسب مونتسكيو أيضاً، الذي كان يرى أن "ثمة حاجة ضرورية في الجمهورية الديمقراطية إلى القدرة الكلية للتربية؛ كي تطبع عند الأولاد هذا التخلي عن الذات، وهو أمر شاق دوماً. هذا الحب للقوانين وللوطن يتطلب تفضيلاً دائماً للمصلحة العامة على مصلحة الذات. الدولة مثل كل الأمور في العالم، لكي تصان يجب أن تحب. والقوانين كذلك، لكي تطاع يجب أن تحب"، وأن يدرك الذين يطيعونها أنها وضعت من أجلهم.هذه إشارة مهمة إلى وحدة الفكر والأخلاق والسياسة، بالمعنى الأرفع للسياسة، بما هي شأن عام.
الجمهورية الديمقراطية، هي ذي طبيعتها الخاصة: الشعب، مجموع المواطنين الأحرار. الشعب يظهر في هذه الدولة بوجهين متعارضين: حاكم ومحكوم؛ حاكم، لأنه هو الذي يضع القوانين بوساطة ممثليه الذين يعرف كيف ينتخبهم؛ ومحكوم لأنه يطيع القوانين. الشعب هو السيد، و"إرادة السيد هي السيد نفسه؛ إذاً السيد يجب أن يعمل بنفسه كل ما يستطيع عمله فعلاً، وما لا يستطيع فعله يعمله بوساطة وزراء أو حكام يختارهم بنفسه".
كما تتجلى العلمانية واقعياً أيضاً في مبدأ السيادة الوطنية المستمدة من الشعب؛ الشعب هو السيد، وإرادة السيد هي السيد نفسه (الإرادة العامة)، إذ "السمة الأولى للسيد هي القدرة على وضع قانون للجميع بوجه عام، .. بدون موافقة أعلى أو مثيل أو أقل من الذات" وإلا فإنه تابع حقيقي". السيد لا يفرض أي عقيدة على رعاياه، بخلاف معنى السيادة المستمدة من "التفويض الإلهي" و"الحق الإلهي"، وبخلاف "حاكمية الله" و"ولاية الفقيه" عند الإسلاميين. "القانون يستطيع كسر الأعراف؛ العرف لا يستطيع مخالفة القانون"، والعرف ملتبس بالشريعة الدينية دوماً، باستثناء بعض الأعراف السياسية والأخلاقية الحديثة.
السيادة هي "قوة تلاحم الجماعة السياسية (الأمة) واتحادها، بدون هذه القوة تتفكك الجماعة وتنهار؛ وقوام السيادة هو تبادل الأمر والطاعة الذي تفرضه طبيعة الأشياء على كل مجموعة بشرية تريد أن تعيش. السيادة هي القدرة المطلقة والدائمة لجمهورية من الجمهوريات. وديمومة السيادة هي البقاء الطبيعي لشكلها الاجتماعي (الشعب). السيادة دائمة بدوام الشعب الذي هو صاحبها ومصدرها، وثابتة بثبوته فلا تتجزأ ولا تنتقل ولا تُفوَّض.
السيادة المستمدة من الشعب هي سيادة الدولة، أي سيادة القانون، الذي هو روح الدولة، لا سيادة الحكومة أو السلطة التنفيذية، هذه الأخيرة لا سيادة لها، بدلالة اسمها (سلطة تنفيذية). الإنسان / الفرد / المواطن هو أساس السيادة، لأنه أساس الدولة أو مادتها، لا موضوعها؛ فإذا كان الشعب هو السيد حاكماً ومحكوماً، فإن كل فرد من أفراده سيد حر ومستقل بالمعنى ذاته، أي بمعنى كون حاكماً ومحكوماً. الدولة هي الجمهورية، الشيء العام أو الشأن العام والاشتراك السياسي، المؤسس على مبدأ ملازم للسيادة هو الشرعية، أي مطابقة الحكم للقيم الأخلاقية من عقل وعدل ونظام بالمعنى الأرفع.
الشرعية الدستورية هي المظهر الثالث من مظاهر العلمانية؛ الشرعية تستمد من الشعب، أو من العقد الاجتماعي بين أفراد أحرار، يعبر عنه الدستور والقانون، لا من مصدر إلهي أو قوة مفارقة أو شريعة دينية أو مذهبية أو نص مقدس أو أكثرية عددية، إثنية أو دينية أو مذهبية، لا يمكن أن تتحول إلى أكثرية سياسية أو أقلية سياسية، ما دام المجتمع راكداً يعيش على اقتصاد الكفاف والسحت من جهة والنهب والهدر والفساد من جهة أخرى، وتغذيه ثقافة تقليدية لا تتسق في جملتها مع مقتضيات الحياة العصرية. الشعب هو من يضع الدستور والقانون، بوساطة جمعية تأسيسية منتخبة انتخاباً صحيحاً، وتلتزمه، أو تعدله أو تغيره هيئة تشريعية ينتخبها الشعب انتخاباً صحيحاً مرة تلو مرة. وهذا الانتخاب هو الشكل السلمي لتداول السلطة، سواء كان النظام ليبرالياً أم ديمقراطياً، فلا يختزل الديمقراطية ولا يستنفدها، خلافاً لمن يعتقدون أن الديمقراطية مجرد صندوق اقتراع.
الشرعية الدستورية هي النتيجة الضرورية لسيادة الشعب المؤسسة على مبدأ المواطنة. فلا تستقيم الحياة السياسية، ولا يتحقق استقرار سياسي إلا على هذه الأسس والمبادئ، التي هي أسس الدولة الحديثة ومبادئها، فإن فساد أحد هذه المبادئ يؤدي إلى فسادها جميعاً، وهو الشر الذي لا تصلحه إلا ثورة كالثورات التي نعيش ونأمل أن تحرر السياسة من العلاقات الدينية والعائلية والشخصية وامتيازات الولادة، وترقى بالدولة إلى مؤسسة سياسية عامة فوق الأفراد، وفوق الطبقات، وفوق الأديان والمذاهب، وفوق الرؤساء والملوك والقادة الملهمين، دولة يكون فيها. الأفراد مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، والرؤساء في خدمة شعوبهم.

[1] - التناقض الذي نشير إليه هو تناقض بين الموصوف، أي الدولة، وبين الصفة، دينية أو مدنية؛ إذ الدولة مجال عام، والدين، الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي وما شئت، مجال خاص لجماعة بعينها. العام هو ما يحدد الخاص، لا العكس. كل وصف هو تحديد وتعيين؛ الدين لا يحدد الدولة أو يعينها، لأنه ليس من صفاتها ولا من طبيعتها. هذا من جانب ومن الجانب الآخر ينتمي مفهوم الدولة إلى دائرة الموضوعية، في حين ينتمي الدين إلى دائرة الذاتية. والأهم من ذلك أن مفهوم الدولة مفهوم مجرد يدل على العمومية، بخلاف السلطة السياسية التي يمكن أن توصف بأنها دينية أو مدنية، بحكم طابعها المزدوج، العام والخاص. ونعتقد أن شعار الدولة الدينية (الإسلامية) ناتج من عدم تمييز الدولة من السلطة ونظام الحكم، وهذه، الدولة والسلطة ونظام الحكم ثلاثة أشياء مختلفة.

[2] - ناقشت ذلك بالتفصيل في كتاب "وردة في صليب الحاضر، نحو عقد اجتماعي جديد وعروبة ديمقراطية"، من منشورات رابطة العقلانيين العرب، دار الفرات، بيروت، ودار بترا، دمشق، 2008.
شاركه على جوجل بلس

عن Editor

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق