دراسات | قراءات | الإشارات والمسالك (من إيوان ابن رشد إلى رحاب العلمانية) بقلم محمد الاشهب.




محمد الاشهب
باحــــث مغربي في
الفلسفة واستاذ التعليم
 الثانوي التأهيلي نشر
عدة مقالات ودراسات
في الفكر والثقافة.
ناصيف نصار، فيلسوف لبناني، من بين المنارات القليلة المضيئة في سماء الفكر والفلسفة العربية. انكبّ، منذ أواخر الستينيات، بالدرس الفلسفي، على موضوعات: الاستقلال الفلسفي، والنهضة، والسلطة، والحرية، والإيديولوجيا، والطائفية. من أواخر ما صدر له من أعمال، كتاب (الإشارات والمسالك - من إيوان ابن رشد إلى رحاب العلمانية)، جمع فيه ما تفرّق في غيره (في مؤلفات سابقة) من قضايا وإشكالات.

يقع كتاب (الإشارات والمسالك)، الصادر عن دار الطليعة، سنة 2011م، في 288 صفحة توزّعتها ثلاثة أقسام مؤطّرةٍ بتقديمٍ يوضّح المؤلف فيه الخيط المنهجي الناظم لمواضيع ثلاثة مختلفة هي: إشكالية التعامل مع تراثنا الفلسفي من خلال نموذجي ابن رشد، وابن خلدون، ثمّ إشكالية الفلسفة بين الخصوصية والكونية، من خلال قراءة نقدية في أطروحة الخصوصية عند طه عبد الرحمن، أولاً، ثمّ إبراز الأسس الفلسفية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ثانياً، وأخيراً يعالج، في الفصل الثالث، إشكالية السلطة، انطلاقاً من محاور ثلاثة: المحور الأول يدور حول سلطة الدولة بين المبدأ والواقع، بينما يقدّم المحور الثاني مقاربة فلسفية للعلاقات اللبنانية – السورية. أمّا المحور الأخير من هذا القسم، فهو مرافعة فلسفية دفاعاً عن العلمانية، باعتبارها طريق العرب الوحيد نحو العدل.

يعترف نصار، في مقدمة الكتاب، بأنّ الفكر العربي، بتياراته العريضة، ما زال يتخبّط في تناقضاته الموروثة، غير قادر على حسم أيٍّ منها، ممزقاً أمام سيادته على نفسه، ومسؤوليتها عنها، فلا يندفع نحو التحرّر، والمغامرة، والتحول، والريادة في النظر إلى الإنسان، والكون، والحياة، لأسباب عدة أهمها عجزه عن التحكّم في جدلية الكونية والخصوصية، ومسارات التنوع في داخلها، بطريقة متماسكة فعالة[1].

لا شكّ في أنّ ما يمكن أن يقدّمه الفكر العربي للإنسانية، يتوقف على مقدار أصالة إنتاجنا الفكري، بيد أنّ تحقق هذه الأصالة، بدوره، مشروطٌ بتواصله مع ثقافات العالم الكبرى، لاسيما تلك المهيمنة منها، وذلك على قاعدة شراكة كاملة وراشدة في الكونية، وتنمية كاملة وزاهية للخصوصية[2].

يسعى نصار، وراء هذا التفكير الأصيل، في المحور الأول «مع ابن رشد وابن خلدون»، إلى تقديم نموذج مختلف في التعامل مع تراث السلف، في بعديه الفلسفي والتاريخي.

يبدأ فصله الأول، الذي عنونه بـ (ابن رشد أو الفلسفة المحاصرة)، بالتنبيه على أنّ هدف هذه الدراسة هو التنبيه على حدود التأويلات التي قُدّمت لفلسفة ابن رشد، تجنباً للإسقاط والأسطرة. فهل يعني هذا أنّ ثمة مبالغاتٍ في قراءة فلسفة ابن رشد، إلى الحدّ الذي تحوّل معه هذا الأخير إلى أسطورة؟[3]

يرى المؤلف أنّ هذا هو المآل، إذا ما تقاعس الفكر النقدي عن أداء أدواره لمصلحة التأويلات، التي تقدّم ابن رشد مثقفاً مضطهداً، أو فيلسوفاً عقلانياً تقدمياً، أو تلك التي تربط اسمه بحركة الأنوار، أو تلك التي تعتقد أنها تجد في أعماله مصدر إلهام، أو نموذجاً من أجل تجاوز النزاع بين التمسّك بالتراث، والانخراط في الحداثة[4].

فكيف السبيل إلى تأويل نقدي لفكر ابن رشد؟

لا يستطيع التحليل، بدايةً، أن يتجاهل عامل التعدّد في أعماله، التي شملت الفقه، والطب، والعقيدة، والفلسفة، غير أنّه لا يستطيع، كذلك، أن يكسر وحدتها[5]. وبعد أخذ هذه الملاحظة المنهجية بعين الاعتبار، يتساءل نصار عن الكيفية التي تعاطى بها ابن رشد الفلسفة؟

سيحاول، من خلال هذا السؤال، أن يقارب النشاط الرشدي، في وحدته، وتعدده، من زاوية نقدية.

يرى الكاتب أنّ مفهوم الفلسفة داخل الشروح الكبرى، لم يُقِمْ قطيعة مطلقةً بينه وبين مفهومها في الشروح الصغرى، وما ذلك إلا لأنّ المرحلة الوسطى، وهي مرحلة التفكير في العلاقات بين الفلسفة والشريعة، قد أسهمت في تعديله، أو، على الأقل، في جعل مضمونه أكثر دقةً وتحديداً. فكيف تصوّر ابن رشد الفلسفة في المرحلة الوسطى من اشتغاله بها؟

إن الفلسفة، في منظور العقل البرهاني لابن رشد، تنصبّ على الموجودات، من حيث هي مصنوعة، ومن حيث هي دالة على الصانع.

إنّ ما يسعى ابن رشد إلى شرعنته ليس فلسفة متمحورة حول الإنسان في الكون، ولا الفلسفة على العموم؛ بل مفهوم لفلسفة خاصة هي فلسفة الصانع الميتافيزيقية[6]، ومبرّر ذلك أنّ مفهوم الفلسفة لا يمكن أن ينال تسليم الشرع به، إلا داخل حقل نظري لا يمكن أن يشكّل استكشافه تهديداً جدياً لأساساته.

وبعبارة أوضح، إنّ الفلسفة تكفّ عن أن تكون ممارسة حرّةً للعقل في بحثه عن العقل والسعادة.

إن المفهوم الحقيقي للفلسفة، عند ابن رشد، يتضمّن قدرتها على إثبات وجود الله، وعلى هذا النحو، يكون الإلحاد مقصياً عن الفلسفة، وما دامت الفلسفة منزّهةً عن الإلحاد، فإنّه لا يجوز اعتبارها فعلاً غير مشروع[7].

هذا فيما تعلّق بالفلسفة النظرية. فما القول في الفلسفة العملية؟

لا يبدي ابن رشد أيّ استعداد لوضع مملكة العمل تحت سيادة الفلسفة، بل إنّ الشرع هو من يتكفّل بها بالكامل، عقدياً وفقهياً، وعلى مستوى الزهديات.

إنّ ابن رشد - حسب نصار - يتمسّك، في (تهافت التهافت)، باستراتيجية الدفاع عن الفلسفة في مستواها النظري، بينما يتّخذ موقفاً شديد التضييق على الفلسفة العملية[8].

من هنا، نفهم سرّ دعوته إلى الاعتراف بعجز العقل أمام بعض الحقائق في الشرع المنزل، وضرورة تقبّل مبادئ الشريعة الثلاثة: وجود الله، ووجود السعادة والشقاء في الآخرة، والمعجزات. وهذه المبادئ، التي يرتكز عليها الشرع لتأسيس طابعه المتعالي، موضوعة خارج الشك، والنقاش الفلسفي، ومن ثَمَّ فإنّ الحرية، التي يطالب بها ابن رشد للفلسفة، لا يمكن ممارستها إلا داخل النطاق الذي يرسم الشرع أسواره بصرامة[9].

من هنا، وجد ابن رشد نفسه محاصراً أمام الإشكال الآتي:

إذا كان للفلسفة أن تمارس مفهومها بحرية، فإنّها لا تستطيع أن تتجاهل أنّ الشرع المنزل يتكلم، أيضاً، عن الحقائق الكامنة في مفهومها. فكيف يجب التصرّف، إذاً، حتى لا يقع التناقض بين الفلسفة والشرع؟

في جوابه عن هذا الإشكال، لا يخرج ابن رشد عن التراث، حيث نظرية التأويل هي الحلّ الأنسب[10].

هذه النظرية كانت قائمة ومطبّقة، على نطاق واسع، في الأدبيات الصوفية، واللاهوتية، والغنوصية، وما فعله ابن رشد هو نوع من إعادة بناء مفهوم التأويل، حتى يخدم استراتيجيته؛ ذلك أنّ هذا الأخير قد أناط بالفلاسفة، الذين هم الراسخون في العلم حقاً (أهل البرهان)، دون علماء الدين التقليديين، صلاحيةَ تأويل الشرع المنزل، وقول ما يريد إبلاغه إلى الناس عن الله وخليقته.

غير أنّه سرعان ما يهدم بناءَه السابق، عندما ينبّه إلى أنّ التأويل اليقيني، الذي ليس إلا الفلاسفة أهلٌ له، لا يجوز، بحال، إبلاغه إلى غير الفلاسفة. والنتيجة أنّ الفلسفة، في نهاية المطاف، لن تصل إلا إلى أقلية صغيرة جداً.

إذاً، الحرية، التي يطالب بها الفلاسفة، تشبه حرية السجناء، الذين ينبغي لهم الفرح بوضعهم؛ لأنهم يتمتعون، في سجنهم، بامتياز استثنائي، ألا وهو امتلاك العلم الحق[11]. يستخلص ناصيف نصار أنّ ابن رشد ليس فيلسوفَ الفلسفة كوعي بالمدينة، إنّه فيلسوف الفلسفة كوعي عقلي بصناعة العالم.

ولعلّ التأويل النقدي لابن رشد يُظهر أنّ مشروعه، القائم على العودة إلى الأرسطية الخالصة، لم يكن، في العمق، سوى تعبير أخير عن عملية المحاصرة، التي فرضها على الفلسفة، حتى يمنحها المشروعية.[12] بناء على ما سبق من تبيان لحدود فكر ابن رشد، نتساءل: هل ما زالت فلسفته تتمتّع بأيّ راهنية اليوم؟

يرى المؤلف أنّ من سوء الفهم لفلسفة ابن رشد، ولدورها في التاريخ، أن ننسب إليها مبدأ الفصل بين الفلسفة والدين، اللهم إلا إذا عنينا بالفصل استقلاليةً جدَّ محدودة، ومراقبة، تحت سيادة الشرع المنزل.

ولكن، مع ذلك، وجب الاعتراف بأنّ في أعماق النهج الرشدي يكمن مبدأ أساس يجب أن نحافظ عليه، وأن نوظفه في البحث الفلسفي، وهو مبدأ كونية الفلسفة[13].

في المحور الثاني من هذا القسم، يناقش الكاتب منزلة فكر ابن خلدون في منظور الحداثة؛ حيث يوضح، بدايةً، أنّ الحديث عن فكر ابن خلدون، في منظور الحداثة، لا يرمي إلى الكشف عن أسباب جديدة للافتخار بحداثة خلدونية بالمعايير الأوروبية، ولا إلى البحث عن أصول للحداثة الأوروبية في فكر ابن خلدون، وإنّما يرمي إلى التأمل، معه، في فكرة الحداثة. هو حوار، إذاً، يحترم الفارق التاريخي بين عالمه وهمومه، وبين عالمنا وهمومنا[14]. ولكن، كيف نتأمل، مع ابن خلدون، في فكرة الحداثة، والحال أنّ لفظة الحداثة غائبة تماماً عن النص الخلدوني؟ وهل يمكن القول إنّ الفكر التاريخي، عند ابن خلدون، يتضمّن وعياً معيناً بالحداثة، باعتبارها تغيراً تاريخياً يفضي إلى ظهور جديد أصيل؟

يقرّر ابن خلدون في (مقدمته) أنّ التاريخ يتغيّر باستمرار، وهذا التغير على نوعين:

تغيّر بطيء لا يتميّز فيه اللاحق من السابق تميزاً قاطعاً، وتغيّر أعمق وأشمل، لا يقع كلّ يوم؛ بل عبر عملية انتقال من حقبة تاريخية طويلة إلى حقبة أخرى، بسبب تغيّر جذريٍّ في المسرح التاريخي.[15]

على أنّ ميزة ابن خلدون تكمن في كونه لا يكتفي بوصف التغيّر التاريخي، وتميز مراحله، ورواية وقائعه؛ بل يفكر فيه، ويحاول تفسيره، واستخراج الحقائق الكبرى الكامنة فيه. وفي سياق هذه المحاولة، يتوصل إلى إدراك حدسيّ لحقيقة الحداثة، ولكن من دون أن يتّخذ منها موضوعاً للبحث قائماً بنفسه.

معنى القول السابق هو الاعتراف بقدرة ابن خلدون على تجاوز إدراك التغيّر في التاريخ إلى إدراك أهمية الجديد فيه، بصرف النظر عمّا إذا كان للتاريخ قانون عام يحكم مراحله أو لا، أو غاية عليا يتّجه نحوها أو لا[16].

مع الفكر الخلدوني، نجد أنفسنا - حسب المؤلف - لا أمام نظرة راديكالية وشمولية إلى التغير التاريخي الكبير، الذي يتّخذ، بموجب هذه النظرة، شكلَ حقب طويلة لكلّ واحدة منها أصولها، وفروعها، وحوادثها الخاصة[17]. ولكن، هل اكتفى ابن خلدون بحدس فكرة الحداثة في مستوى تحوّلات التاريخ الكبرى فحسب؟

في نصّ ابن خلدون، يتحرّك الوعي على أساس أنّ المعرفة التاريخية تحتاج إلى أن تنتقل من مجرّد النقل إلى تمحيص الأخبار بالعقل، فماذا يعني هذا الانتقال؟

يجيب نصار بأنه يعني أنّ فنّ التاريخ يحتاج إلى أن يتحوّل، في مراتب المعرفة، إلى علم عقلي، وشرط الوصول إلى هذا المسعى يمرّ عبر طريق علم العمران، باعتباره علماً مستقلاً ينصبّ موضوعه على قوانين الاجتماع البشري في الماضي والحاضر معاً[18].

حاصل هذا القول أنّ الوعي التاريخي، مع ابن خلدون، يتحوّل إلى علم بالانتقال من مجرّد قبول الأخبار، وتجميعها، وترتيبها في رواية خادمة لغرض ذاتي، إلى نقدها نقداً عقلياً خادماً للحقيقة، وهنا، يصبح النقد ممكناً إذا تحرّك العقل، وأنشأ العلم، الذي يمكن تمحيص الأخبار على أساسه. وإنشاء هذا العلم ممكن؛ لأنّ العقل قادر على استنباط العلوم من مبدأ قابلية حوادث الطبيعة للمعرفة بالعقل[19].

في هذا السياق، يتّخذ الكاتب من موضوع السياسة العقلية نموذجاً تمثيلياً لما حاول ابن خلدون القيام به، من خلال إخضاع أحد «المناشط» النظرية والعملية لقوانين علم العمران.

تقوم السياسة العقلية، عند ابن خلدون، على حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية، ودفع المضار.

وبعد تحليلٍ لهذا التعريف، يستنتج نصار أنّ ابن خلدون كان مساهماً مبدعاً، في عقله، للسياسة بلغة العمران، والتاريخ، وفي تمسكه بالسياسة العقلية، على الرغم من انحطاط عصره[20].

بيد أن هذه الإبداعية مشروطة تاريخياً، وآية ذلك أنّ السياسة العقلية، ضمن نظام الاستبداد، ليست أرقى ما يستطيع العقل السياسي الكشف عنه، إن هو ارتفع إلى منزلة العقل الفلسفي، وليس العقل السوسيولوجي فحسب. ومن هنا، تصبح الحاجة إلى إعادة بناء مفهوم السياسة العقلية تطبيقاً لفلسفة الحق السياسي، وليس لفلسفة الملك، الشيء الذي يقتضي فلسفة حقوقية عامة مشتقة من مفهوم الإنسان الاجتماعي لا يطمس الحرية والمساواة، كما يفعل النص الخلدوني[21].

يشكل الفصل الثالث من القسم الأول امتداداً لأطروحة الفصل الثاني، في مستوى آخر، حيث يتوقف المؤلف عند موقف ابن خلدون من الحكمة، ومقدار مساهمته فيها، فبعد إقراره بأنّ مفهوم الحكمة لم يكن من المفاهيم، التي خصها ابن خلدون بالدراسة المفصلة، كما خصّ مفاهيم العمران، والعصبية، والملك... يستدرك بالقول: إنّه، مع هذا، ثمّة إشارات عديدة إليها في فصول (المقدمة) بصيغ لغوية مختلفة، وقبلها في عنوان الكتاب، الذي تأتي (المقدمة) جزءاً منه (يقصد كتاب العبر)، وما العبرة إلا وليدة التبصر العقلي والخبرة الذكية، ومَنْ يتوصل إليها يستحق بالتأكيد أن يوصف بأنّه حكيم[22].

وفي الواقع، يمكن فهم تحليلات ابن خلدون كلها، لاسيما تلك المتعلقة بالعمران، والعصبية، والملك، والصنائع، والملل، والعلوم، والحضارة، وتلك المتعلقة بالدول القائمة في زمنه، من حيث إدراجها تحت مصطلح العبر، بمثابة وجوه من البحث عن الحكمة، ومحاولات لتعيين الحكمة وصوغها في عبارة مقنعة. وبهذا المعنى، يكون هذا المفهوم منتشراً ومتغلغلاً في هذا التأليف كلّه، تارةً في شكل صريح، وتارةً في شكل مستتر[23].

كما يسجل نصار أنّ اكتشاف ابن خلدون علمَ العمران البشري لم يتمّ على أساس قطيعة كاملة مع الفلسفة، كما تبلورت وتطورت في التراث الأرسطي، بل على أساس توظيف جديد لعقلانيتها، وتصورها للكون والإنسان، توظيفٍ يتخلى عن النظر الميتافيزيقي، ويدفع العقل إلى بسط سلطته على التاريخ، بعد أن أكدها في الطبيعيات، والرياضيات، والمنطق[24].

من هذه الزاوية، يؤكد نصار أنّ عقلانية ابن خلدون تثير الإعجاب، من جهة دعوته إلى التحرّر من التقليد، ولكنّها، في المقابل، تثير الانقباض، من جهة تأكيده أنّ فضل علم التاريخ يصبّ، فحسب، في الاقتداء بالماضي. أليس للعقل النظري في التاريخيات سوى هذه الفائدة؟ يتساءل نصار منتقداً هذا الحصر، ليختم هذا الفصل بالتساؤل عن راهنية خطاب الحكمة الخلدونية؛ إذ يسجل أن العودة إلى أصول المشروع الخلدوني، تبيّن نزوعه إلى الشمول التاريخي، ولكن على أساس التمحور حول تاريخ «القطر المغربي» من البلاد الإسلامية.

فهي نظرة تنتظم في دائرتين كبيرتين: دائرة مغربية، ودائرة عربية إسلامية، وما هو خارج هاتين الدائرتين يأتي على سبيل التوسع والاستكمال، من دون أن يجعل منها نظرة شاملة حقاً للتاريخ البشري بأسره.

ومن هنا، ينبغي التبصّر في محدودية انفتاحه على عصره، وعلى ما سبقه من العصور، حتى لا ننسب إليه ما ليس في منطوقه، ولا في مضمونه، وما لا يتحمله من تأويل.

فمن جهة الانفتاح على عصره، لا يبدو ابن خلدون مطلعاً على أحوال الشعوب الأوروبية المتوسطة والشمالية، إلا قليلاً؛ ولذلك لم يحاول أن يدعّم نظريته، في العمران، وفي العصبية، والملك، بأمثلة من تواريخ تلك الشعوب، ولو حاول لما أصاب كثيراً، إلا في بعض الجزئيات المتصلة بتاريخ السلالات الملكية، وممارساتها الاستبدادية؛ لأنّ ثنائية العمران البدوي والحضري لم تتحكّم في تاريخ تلك الشعوب - على افتراض أنها تحكمت - كما تحكمت في تاريخ البربر والعرب[25].

من هنا، صحّ أن نستنتج أنّ الحكمة النظرية الخلدونية كانت، من حيث الشمول التاريخي، محاولةً لتفسير العمران بصورة تصلح للعصور العربية الإسلامية الفائتة، بعد أن دخلت في طور انحطاط شامل، دون غيرها من العصور، مع نزوع إلى التأمل في طبيعة العمران بلغة كونية.

من المؤكد أنّ استيعاب مفاهيم المعاش، والعدوان، والقوة، والتغالب، والعصبية، والملك، يمكن أن تقدّم، اليوم، الشيء الكثير، عند محاولة فهم الجدلية الاجتماعية الكامنة في قسم واسع من المؤسسات والممارسات القائمة في المجتمعات العربية، لكنها وحدها لا تكفي، دون أن يكون في ذلك أدنى بخس لمجهود عمل ابن خلدون؛ لأنّه لم يتمكّن من صياغة مفاهيم الطبقة الاجتماعية، أو المجتمع المدني، والإيديولوجيا، والحزب، التي نحن في حاجة اليها، كي يصبح وعينا بواقعنا الاجتماعي أشدّ نفاذاً وإحاطة[26].

يخصص المؤلف الفصل الأول، من القسم الثاني من الكتاب، لتحليل قضية التواصل الفلسفي، والمجال التداولي.

تتحدّد مقوّمات التواصل، عند صاحب الكتاب، في ثلاثة: المقوم الأول: هو اختلاف الطرفين أو الأطراف الداخلة فيه، والمقوم الثاني: هو الاعتراف المتبادل بين أطرافه، والمقوم الثالث: هو التعارف والتبادل بمعناهما الواسع.

إذاً، لا تواصل إلا بين المختلفين، غير أنّ بعض المذاهب تبالغ في التركيز على الاختلاف بين الكائنات، وفي التشديد على الاختلاف داخل الكائن البشري الواحد، حتى إنّه ينسى أنّ الاختلاف المطلق ينفي إمكان قيام أيّ صلة بين أيّ كائن وغيره. فالاختلاف، مقوماً للتواصل، يستلزم وجود حدٍّ ما من الاشتراك بين أطرافه[27].

إذا كانت المقومات السالفة هي ما يشكّل جوهر التواصل, فكيف يتمّ التعامل معه في مجال الفلسفة؟

يقرر الكاتب، في مدخل جوابه، أنّه إذا كان ثمّة تواصل في الفلسفة، فإن المسؤول عنه، في المقام الأول، هو الفيلسوف. فمتى يمكن لهذا الأخير أن يتواصل؟

انه لا يتواصل، ولا يمكن أن يتواصل، عندما يدّعي اكتمال نتاجه الفلسفي. وإن حصل فهو من الضعف الشديد. إنّ التفلسف الحق لا يتحقّق إلا في مجرى التواصل، ولأنّ الفيلسوف لا يبدأ من الصفر، فهو مدعوٌّ إلى التواصل مع كلّ من يفكر تفكيراً جدياً مسؤولاً في الحياة والوجود، وعلى وجه التحديد، مع زملائه الفلاسفة، أينما كانوا، وفي أيّ عصر عاشوا، على أساس كونية الفلسفة.

لكنّ الفيلسوف، من جهة أخرى، شخص حيّ يعيش ويفكّر في مجتمع له تاريخه الخاص، ومن ثَمَّ فإنّ تفكيره الكوني، موضوعاً ومنهجاً، لا بدّ له من التشكّل تحت شرط الخصوصية. والخصوصية، التي ينبغي اعتبارها من زاوية التواصل الفلسفي، تشتمل على ثلاثة مستويات رئيسة: المستوى السياسي، والمستوى اللغوي، والمستوى الحضاري.

إنّ تاريخ الفلسفة تاريخ كونيّ مؤلّف من مجموعة من الخصوصيات[28].

بعد هذا التأطير العام، يخصّص الباحث قوله بالتساؤل حول وضعية التواصل الفلسفي للفيلسوف العربي، داخل مجاله التداولي العربي، أولاً، وغير العربي، لاسيما الأوروبي والأمريكي، ثانياً.

فيما يتعلق بالوضع الأول، يؤكّد نصار أنّ التواصل يجب أن يكون، مع الفلاسفة العرب المتقدمين، قائماً على الوعي بالاختلاف في الوضعية الحضارية، والاجتماعية، والسياسية؛ وذلك لأنّ صورة العالم العربي، اليوم، على صعيد التطور الحضاري، والتطور الاجتماعي، والسياسي، ليست استمراراً للصورة التي كان عليها في العصور الوسطى، ما يعني أنّ الإشكالية، التي تؤطّر الفيلسوف العربي، لا تجعل وحدة اللسان، مع الفلاسفة العرب المتقدمين، مفيدةً له في إنتاج خطابه الخاص، إلا بقدر ما يبتعد عن التفاعل مع المعطيات الانقطاعية لمجاله التداولي. "إنني أفهم - يقول نصار - أن يتمّ تواصل مع الفارابي، أو مع ابن رشد، أو مع غيرهما، بحثاً عن حلٍّ عصري لمشكلة العلاقة بين العقل والوحي، ولكنّني لا أرى بينهم من ينبغي التواصل معه للتفكير في مشكلة المواطنة والديمقراطية"[29].

أما فيما يتعلق بحيثيات التواصل بين الفيلسوف، في المجال التداولي العربي، وبين فلاسفة الحضارة الغربية، فإنّ أوّل اختلاف يختبره الفيلسوف، في سعيه إلى التواصل معهم، هو اختلاف اللسان، ثمّ يأتي بعده الاختلاف في الوضعية السياسية، والحضارية. ولكن، أينفي تعدّد الألسنة كونيةَ التفكير الفلسفي، أم أنّه مصدر إغناء لها؟

قد لا يكون التفسير الأول باطلاً كلياً، حسب المؤلف، لكنّ التفسير الثاني أصحّ وأجدى[30]، والأخذ به يترتّب عليه القول إنّ التواصل بين المجالات التداولية للفلسفة يقوم على مبدأ الشراكة، في إطار اعترافٍ واحترامٍ متبادل، وأخذٍ وعطاء، بحسب الحاجة والقدرة، حول أسئلة تهمّ الإنسانية قاطبة.

وهذه الخواص هي ما عجز الفيلسوف التداولي العربي عن الوفاء بها، ضارباً، في ذلك، مثلاً، أطروحة طه عبد الرحمن، حول الحق العربي في الاختلاف الفلسفي؛ أي حقّ الأمة العربية، كغيرها من الأمم، في أن تكون لها فلسفتها القومية الخاصة، حيث التواصل الفلسفي، حقيقةً، هو بين الأمم، وما عدا ذلك، ممّا يوصف بالعالمية والكونية، ليس سوى وهمٍ، أو قناع خادع. فما هي القيمة الفلسفية لهذا التصور؟

إنّ محاولة طه عبد الرحمن ليست سوى استئنافٍ، بحلة جديدة، لفلسفة زكي الأرسوزي، التي سعت لتزويد الأمة العربية بفلسفة مستمدّة من عبقريتها؛ أي من لسانها. المنطلق القومي، عند الاثنين، صريح، والتركيز علّة محورية اللسان كذلك، غير أنّ طه عبد الرحمن يزيد على ذلك، عندما يسير بالقومية في اتجاه الدين، وهذا يعني أنّ التواصل الفلسفي، عنده، محكومٌ، من خارج الفلسفة، بالقومية من جهة، وبعقيدة الإسلام من جهة ثانية.

يركّز طه، في أطروحته، على تعدّد الدوائر التراثية في تاريخ الفلسفة، دون تعدّد الدوائر داخل التراث الواحد، فهل للفرنسيين فلسفة واحدة؟ وإلى أيّهما سارتر أقرب - يتساءل نصار - إلى أوغست كونت الفرنسي أم إلى هايدغر الألماني؟

إن حركة العقل الفلسفي، داخل المجال التداولي، ليست من النمط نفسه القائم بين الدولة ومواطنيها، فمقاومة التوحيد الفلسفي العالمي الجاري لمصلحة الأمم المسيطرة على العالم، لا تنبني على نفي كونية الفلسفة، وعلى إثبات قوميتها؛ بل على تأكيد حرية العقل، ودعم طاقته الإبداعية[31].

يقف ناصيف نصار، في الفصل الثاني، على الأسس الفلسفية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، باعتباره أرقى وثيقة أنتجها تطوّر البشرية في ميدان حقوق الإنسان، فعندما يقرّ هذا الإعلان أنّ هناك حقوقاً للإنسان بما هو إنسان، فهو يؤصّل لهذه الحقوق على أساس فلسفي؛ لأنّ خطاب الفلسفة كونيّ من حيث هو خطاب عقليّ عن الإنسان، وموجّه إلى كلّ إنسان، وبهذا المعنى، هو سابق على كلّ إيمان.

إذا كان الأمر كذلك، فكيف ينبغي التذكير بأنّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فعل فلسفي في أصله؟

يحاول الكاتب الإجابة عن هذا السؤال، من خلال نص الإعلان نفسه، مركزاً حديثه على الديباجة، وعلى المادتين الأولى والثانية.

تقول المادة الأولى إنّ جميع الناس وُلِدوا أحراراً متساوين في الكرامة، والحقوق، وقد وُهِبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء، كما يعترف البند الأول من الديباجة بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية، وبحقوقهم المتساوية الثابتة، وهو أساس الحرية، والعدل، والسلام في العالم[32].

إنّ الملاحظ يدرك أنّ فلسفة الإعلان ككل لا تنبني على التمييز بين حكومات تنفي حقوق الإنسان وحكومات تراعيها، تبعاً لمصالحها، وموازين القوى فيها؛ بل تذهب أبعد من ذلك، وتقرّر أنّ حقوق الإنسان سابقة على إرادات الحكومة أياً كانت، فليس لهذه الإرادات أن تمنح الإنسان حقوقه، وليس لها أن تسلبها منه، أياً كان نظامها السياسي والإيديولوجي.

إنّ حقوق الإنسان سابقة على كلّ اصطلاح حقوقي، وفوق كلّ اصطلاح حقوقي؛ لأن كرامة الناس متأصلة فيهم، وليست هبةً من أيّ واحد منهم. ولو شئنا ترجمة هذا المضمون فلسفياً، لقلنا إنّ الخلفية الفلسفية، التي تحكم فكرة حقوق الإنسان، هي نظرية الحق الطبيعي، وليست نظرية الحق الإلهي، ولا نظرية الحق الوضعي. ففي مقابل نظرية الحق الإلهي، تطرح نظرية الحق الطبيعي حقوقَ الإنسان من زاوية عقلية وكونية وبرهانية، وفي مقابل نظرية الحق الوضعي، تطرحها من زاوية أخلاقية تتميّز بالثبات والمعيارية[33]. يحيلنا التمييز السابق إلى التساؤل عن طبيعة الإنسان داخل هذا الإعلان الحقوقي؟

تروم عبارة "جميع أعضاء الأسرة البشرية"، الواردة في مطلع الإعلان، إلى استبعاد النظر إلى الكائنات البشرية بوصفها كائنات منعزلة بعضها عن بعض؛ لذلك لا نجد أثراً لفكرة الفرد المنعزل في كلّ مواد الإعلان، فالحقوق حقوقٌ لكائنات اجتماعية تتّسم بالكرامة، والعقل، والحرية، والضمير، والمساواة، تولد وتعيش معاً، ولو تباينت الأحوال والظروف فينا بينها. وما استعمال عبارة "أعضاء الأسرة البشرية" إلا تأكيد على أنّ هذه الكائنات تؤلّف أسرة واحدة، وانطلاقاً من مفهوم الأسرة، يمكن تسويغ اللجوء إلى مفهوم الإخاء[34].

لا ينكر الكاتب الطابع المثالي لفلسفة الإعلان، لكنّها مثالية واعية بنفسها، يحرّكها فكر مبدئيّ قوامه أنّ هذه الحقوق هي المعيار المشترك، الذي ينبغي للشعوب كافة، والأمم كافة، أن تبلغه. ولكنّه لا يفعل ذلك، بعيداً عن الواقع التاريخي، لحاجة نظرية خالصة. مثاليّته منفتحة على الواقع، ومتفاعلة معه، في بواعثها، ومرتجاها. إنّها مثالية ملتزمة، بمعنى أنّها تربط المبادئ بمؤسسات محددة[35].

ليخلُصَ، في آخر الفصل، إلى أنّ حقوق الإنسان قضية فلسفية في الدرجة الأولى، فلا يمكن العمل من أجل تطبيقها وتحقيقها في الواقع التاريخي، من دون اقتناع راسخ بفلسفتها، وهذه الأخيرة كونية بطبيعتها، فلا يصحّ الوقوف في وجهها، ورفضها، بحجّة أيّة خصوصية[36].

في القسم الثالث والأخير، يقوم الكاتب بجولة فلسفية في فضاءات السلطة؛ إذ يتطرّق، في الفصل الأول، إلى إشكالية سلطة الدولة بين المبدأ والواقع، حيث يؤكد، في مقدمته، أنّ سلطة الدولة لا توجد وتشتغل طبيعياً إلا في إطار دولة الحق، وليس في دولة السيطرة القائمة بالقوة الجبرية القاهرة. ليتساءل، بعدها، عن الداعي إلى مقاربة مفهوم سلطة الدولة فلسفياً؟

والجواب أنّ الفلسفة أقدر من غيرها على بناء مفهوم سلطة الدولة بطريقة عقلية، بوصفه مفهوماً اجتماعياً وسياسياً وكونياً؛ لأنّها الأقدر على إعطاء الحقيقة حقّها الكامل، قدر الإمكان، في ما هو أبعد من الصراعات الإيديولوجية، وأقرب إلى صراع الإنسان مع نفسه تحقيقاً لماهيّته، ومن هنا ارتباطُ مقصدها الكوني بالمقاربة العقلانية المجردة، قدر الإمكان، عن الاعتبارات الإيمانية، والأساليب الجدالية الضرورية لمعارك السياسة العملية[37].

بعد هذا التحديد النظري، وبناءً عليه، يتساءل: ما المضمون الذي يشكّل موضوعاً خاصاً لسلطة الدولة؟

يشمل هذا المضمون، من الناحية الفلسفية، أربعة جوانب هي: الجانب الأمني، والجانب التنظيمي، والجانب التدبيري، والجانب الإنمائي. أما الجوانب الأخرى، كالجانب الفني، أو العلمي، أو الاقتصادي، أو الديني، فهي تتأثر بسياسة الدولة، كما تتأثر هذه الأخيرة بها، دون أن يكون ذلك على حساب منطقها الداخلي الخاص، الذي يكفل لها استقلالية معينة[38].

هذا فيما يتعلّق بسلطة الدولة، سلطةً سياسيةً أصليةً، بيد أنّ الممارسة الفعلية لهذه السلطة تتطلّب نظام حكم يتولّى، بموجبه، بعض أفراد الشعب صلاحيةَ إدارة شؤون الدولة على أساس تفويض محدّد، الأمر الذي يستدعي استحضار سلطة الدولة، وسلطة الحاكم في تمظهراتها المعقدة؛ ذلك أنّ إغفال العقل السياسي لهذه الثنائية من شأنه فتح الباب على تحوّل الإرادة السياسية من إرادة سلطة إلى إرادة سيطرة وقهر، لاسيما عندما يتماهى الحاكم مع الدولة، فيعتقد أنّه هو الدولة، بينما منطق السلطة يرفض أيّ دمج بينهما. ومن ثمّ، لا يكفي أن يخلق الشعب هذا الكائن (الحاكم)، لكي يرتاح، ويطمئنّ إلى سير الأمور على أفضل وجه.

قد يكون هذا صحيحاً في مجتمعٍ بلغ التطور فيه درجةً تجعل العمل السياسي يجري واقعياً طبقاً لما تقتضيه مبادئ السلطة، لكن الأمر على خلاف ذلك في معظم مناطق العالم، وهو ما يفرض مزيداً من الكفاح الطويل والشاق لبلوغ هذا الهدف، على منوال ما تطلبه الإقرار بأنّ الشعب يخلق الحاكم، ويفوّض إليه سلطته على نفسه، من نضالٍ طويلٍ وشاق اتخذ، أحياناً، طابعاً إصلاحياً، وأحياناً أخرى، طابعاً ثورياً.

ولذلك، إن السؤال عمّا يضمن أنّ الحاكم سيتحمّل مسؤوليته، بمعنى أن يحكم الشعب، ويخضع، في الآن نفسه، لمحاسبته، دون استئثار بالممارسة السياسية، سؤال مشروع، لكن لا جواب عنه؛ لأنّ المسألة مسألة ثقافة وأخلاق على مستوى الشعب، ومحكّ النجاح فيها قوّةُ الرأي العام. وكلّ إمكان من هذا النوع يتحقّق، إن كتب له التحقّق، بلا ضمانة سابقة على تحققه[39].

ليختم هذا الفصل بمناقشة الصعوبات، التي تعترض، في العالم العربي، تكوين الدولة، واشتغالها بصورة طبيعية، حاصراً إياها في انتماءات أربعة: الانتماء القبلي، والانتماء الطائفي، والانتماء الإثني اللغوي، والانتماء الجهوي. وما أدّته (ولا تزال) هذه الانتماءات من أدوارٍ شديدة السلبية على تكوين نسيج إجماعي متماسك وطنياً، لم يفرز مقاومةً ذات بعد وطني؛ بل خليط من تقاليد السيطرة والاستبداد.

ترصد خاتمة هذا الفصل خطر التمدّد المتنامي لقوى الممانعة الطائفية على كيان الدولة، قائلاً: "لفترة طويلة كان لبنان البلد الوحيد في العالم العربي، الذي يواجه، بصراحة علنية، مشكلة الممانعة الطائفية لتكوين السلطة السياسية على الأساس الوطني الخالص، وها نحن، اليوم، نشهد نمواً متزايداً للعصبية الطائفية، وطرحاً علنياً متصاعداً للمطالب الطائفية السياسية في أكثر من بلد عربي"[40].

ينزل ناصيف نصار، في الفصل الثاني، من علياء التجريد إلى وديان الواقع التاريخي المتعيّن، مع المحافظة على الوجهة الفلسفية في النظر إلى الموضوع.

يقدّم الكاتب رؤية فلسفية للعلاقات اللبنانية - السورية، مع اعترافه المسبق بأنّ هذا النوع من المقاربة قد يثير استغراباً واستنكاراً من لدن أصحاب الاعتقاد الشائع بأنّ العلاقات بين الدول شأنٌ سياسيّ محض ينتظم سلمياً في إطار الدبلوماسية، ويخضع لقاعدة المصالح المتبادلة، لكنّ ما ينجم عن هذا الاعتقاد - إن كان صحيحاً - ليس، بالضرورة، إقصاء الفلسفة عن حقل العلاقات بين الدول؛ لأنّ السياسة شكّلت موضوعاً للفلسفة، منذ عصورها اليونانية، والعلاقات بين الدول جزء لا يتجزّأ من السياسة، على الرغم من أنّ الضغوط التاريخية الشديدة لا تسمح للفاعلين، على مسرح تلك العلاقات، بوقتٍ وهامشٍ كافيين للتأمّل وتحديد مواقفهم، والتزاماتهم، على أساس رؤية فلسفية محددة.

والعلاقات السورية - اللبنانية ليست بدعاً في ذلك، لاسيما أنّها كانت، طيلة القرن المنصرم، موضوع امتحان صعب ومحتدم ومأزوم، لاسيما في نظرة كلّ طرف إلى ذاته، وإلى الأخر[41]. ومن هنا دورُ الفلسفة في صياغة رؤية أساسية شاملة لطبيعة هذه العلاقة التي يمكن أن تقوم على مسلّمتين:

أولاهما الاعتراف الصريح والصادق بوجود دولتين لشعبين شقيقين متجاورين يتمتّع كلٌّ منهما باستقلاله، وسيادته، وحريته، ونظامه، وثانيتهما أنّ نوع العلاقات بين هاتين الدولتين ليس مفروضاً عليهما من أيّة جهة، وإنما هو حصيلة إرادة مشتركة مستعدّة لدفع التعاون بينهما إلى حده الأقصى.

وما يميّز النظر الفلسفي التفكيرُ في مضمون هاتين المسلمتين بعقلانية وشمولية، مترفعاً عن الانفعالات، والهواجس، والمواقف المتشنجة، والشكليات، والشكوك، ولعبة التجاذبات، والحسابات الظرفية.

يقود هذا النظر في فحوى المسلمتين إلى تصوّر العلاقة بين البلدين على أربعة مستويات: المستوى الأمني أولاً، ثمّ المستوى البراغماتي، يليه المستوى العقائدي، وصولاً إلى المستوى النهضوي الحضاري[42].

في الفصل الثالث والأخير، في هذا الكتاب، يتدخّل نصار في قضية العلمانية، مساهمةً منه في تبيان ما يُعتَقد أنّه الأساس النظري الصحيح لعلاقة الإيمان الديني بسلطة الدولة.

يوضح المؤلف، في مبتدأ الفصل، أنّ العلمانية، بوصفها قضية تمسّ الدين، تبقى ضرورة لا يمكن تجنّبها، فبأيّ معنى تفرض العلمانية نفسهاً سؤالاً على الدين، وموقفاً من تعاليمه، ووضعه في المجتمع؟

يجيب نصار بأنّ تنامي الوعي البشري لا يترك النظرة الدينية إلى الإنسان، في منأى من مكتسباته، وتأثيراتها التغييرية. على أنّ تجاوز العلاقة الصراعية بين الدين والعلمانية، وتجاوز النزعة التقديسية لهذه الأخيرة، يوجب التعامل معها كورشة مفتوحة ومتجددة، سواء في المجتمعات المتطورة نحو العلمانية أم في المجتمعات المتطوّرة في العلمانية. فحتى في هذه الأخيرة لا يمكن الاستكانة إلى أنّ الدخول في العلمانية قد تحقّق بالكامل، وانتهت المهمة، وفي المجتمعات المتطوّرة نحو العلمانية، لا ينفع التأجيل والتردّد، والمقاومة العمياء، ما دامت نظرية العلمانية كونيةً تمسّ النظرة الدينية إلى الكون والإنسان في ذاتها، وكفعل تاريخيّ لا يقتصر على دين، أو مجتمع دون آخر.

إنّ جميع الأديان معنية بالعلمانية؛ لأنّ العلمانية مساءلة لجميع الأديان بلا استثناء، مع مراعاة قانون التفاوت والتطور. بيد أنّ رفض الاستثناء لا يلزم عنه، ضرورةً، اختزال الطرق المتعددة المتناسبة مع التراثات المتعددة في اتجاه العلمانية[43].

وفي المقابل، يظلّ التفكير في الدين من خارجه، علمياً وفلسفياً، شرطاً ضرورياً للتطور نحو العلمانية، وكلّ محاولة، في سياقنا العربي لإصلاح الإسلام من داخله، تبقى محدودةَ الجدوى والأفق، وعاجزة عن التشبّه بالإصلاح البروتستانتي؛ لأنّها ستأتي في أعقاب تطوّر حضاري يَطرح على الثقافة العربية، ومكانة الإسلام فيها، تحدياتٍ لا ينفع لرفعها، أو لاستيعابها النظر في الدين من داخله فحسب.

ومادامت الثقافة العربية عاجزةً عن إطلاق حركة واسعة لتعزيز العقلانية المنتجة للعلم، والفلسفة، والصناعات العصرية، والتنظيم الإداري النافع، وللتفكير في الدين بوساطة الفلسفة والعلوم، لاسيما علوم الإنسان، فإنّ حظوظها في التطوّر نحو العلمانية ستبقى متعثرة، أو ضئيلة، مع أنّه لا يمكن تجنبها[44]، ثمّ يتساءل بعدها حول السبب الكامن وراء تطوّر المجتمعات بدرجات متفاوتة نحو العلمانية كغاية؟

يجيب نصار بأنّ كلّ تعدّد في عالم الإنسان يحتاج إلى تنظيم، وتنظيم التعدّد الخاص بالسلطات الأصلية في عالم الإنسان، يحيل، بالضرورة، على العدل، وهو ما يسوّغ العلمانية.

بياناً لهذا التصوّر، يقدّم المؤلف فكرتين: الفكرة الأولى أنّ العدل المسوّغ للعلمانية هو عدلٌ بين السلطة الدينية وغيرها من السلطات الأصلية في عالم الإنسان، وهو ما يفرض حفظ الفارق بين مجال ومقتضيات الإيمان، ومجال ومقتضيات المنطق، مع أنّ النظر إلى الواحد من موقع الآخر ممكن. يضاف إلى ذلك أنّه، في الوضع العلماني، لا تتلاشى الأخلاق الدينية؛ بل تتغيّر مكانتها المرجعية، حيث تعود، مع غيرها من المذاهب الفلسفية، والاختبارات الأخلاقية الخارقة، خادمةً للإنسان، باعتباره كائناً أخلاقياً قادراً على تحسين معرفته الأخلاقية، في إطار تنامي وعيه لذاته، وللعالم حوله، وداخل هذا الوضع، كذلك، يقتضي العدل أن تحترم السلطة الدينية استقلالية السلطة السياسية ومؤسساتها، وأن تحترم السلطة السياسية استقلالية السلطة الدينية ومؤسساتها، مع الحرص على استبدال معايير التراتب العمودي، ومعايير الترتيب الأفقي بينهما، بمعايير التفاعل الإيجابي في تدبير الحياة، لاسيما ما يخصّ الأخلاق والسلام[45].

والفكرة الثانية أنّ العدل في العلمانية هو عدلٌ بين الأديان والمذاهب الدينية، آخذةً، في الاعتبار، ما يحمله تاريخ هذه الأديان من صراع عنيف بين دين وآخر، أو صراع مذهب مع مذهب آخر داخل الدين الواحد. فالقاعدة الوحيدة، إذاً، القادرة على إخراج المجتمعات المتعددة الأديان والمذاهب الدينية من منطق التصارع، والقهر، والظلم، هي القاعدة العلمانية، وكلّ ما عداها تسويات لتمويه الصراع، حتى يحين وقت انفجاره، أو حتى ينهار أحد أطرافه.

إنّ العلمانية هي ما يؤسّس احترام حريّة كلّ فردٍ في البحث، والنقد، واعتناق الإيمان، الذي يرتضيه لنفسه، وترك المصير الخاص لكلّ منظومة إيمانية، وفقاً لقدرتها على توليد المعنى في نفوس معتنقيها جيلاً بعد جيل[46].

وما كان للدولة العلمانية أن تحقّق هذا الشرط، إلا لامتناعها عن التدخّل في الشؤون العقائدية للدين، أو للأديان، التي تعيش في دائرتها، وتترك لكلّ دين أن يبني نظرته إلى السياسة والعمل السياسي، تحت شرط احترام استقلاليتها السياسية.

على ألا تستغلّ الدولة، كذلك، هذه الاستقلالية لتتحوّل إلى مطلق، أو تجلٍّ له لا بديل له، مع ضرورة التوكيد المستمر على أنّ الديمقراطية ليست آلهة تحلّ محلّ الآلهة القديمة، وإنما هي نظام اجتماعي سياسي أقرب إلى العدل من الأنظمة الأخرى التي عرفتها البشرية[47].

وفي الأخير، يخلص المؤلف إلى أنّ المجتمع العلماني الديمقراطي بمقدوره بناء نظرية المجال العمومي، بمرونةٍ تتيح للممارسة الدينية الإيمانية الدينية أن تخرج من الحيّز الشخصي الخالص، إلى الحيّز العمومي دون شكل سياسي، وهو ما يقتضي، بطبيعة الحال، تجاوز الفهم التبسيطي لثنائية العمومي والخصوصي في المجتمع السياسي، والنظر إلى هذه الثنائية من وجهة جدلية وتدرجية[48].

بعد هذا العرض المكثّف لأهمّ الأفكار الواردة في الكتاب، والذي - لا شك - لا يغني، بحال، عن العودة إلى تفاصيل الكتاب الغنيّة بعمقها التحليلي، أسجّل الملاحظات الآتية:

أولاً: لقد أفلح المؤلف في تجنّب السقوط في شرك التحليلات العقائدية المغلقة، في معرض قراءته لفكر علمين من أعلام الفكر العربي الإسلامي في العصر الوسيط (ابن رشد وابن خلدون)، فلم يستبدل قراءة لا تاريخية بأخرى مشابهة، فرداً على دعوى عقلانية ابن رشد، وتقدميته، وتنويره، لم يجنح نصار إلى تجريده من هذه الخواص، من منظورٍ تحكُمه الانفعالية، أو سطوة الإيديولوجيا، كما فعل بعضٌ ممّن نفى، بإطلاق، الإبداعية والجدية عن فكره؛ بل رأى، في فكره، بعض المنارات، التي قد تساعدنا في تلمّس الحلّ لبعض الإشكالات، لكنّ إشكالاتٍ أخرى هي من الجدّة والحداثة إلى الحد الذي يعجز فيه التراث (ولو كان فلسفياً) عن إمدادنا بأيّ عدّةٍ نظرية تسعفنا في حلها، فلا مفرّ، إذاً، من الاجتهاد دون سند من ذخيرة الأولين.

والأمر نفسه يٌقال عن ابن خلدون، الذي قُدِّمت، حول فكره، عشرات القراءات والتأويلات، فبعضٌ من مفكرينا أدخله في قوالب سلفية، وبعضهم عَدَّه ماركسياً قبل ظهور الماركسية، وبعضهم رأى فيه مصدراً من مصادر الفكر القومي... كلّ فريق اقتبس منه، وفسّر نصوصه، بما يتناسب ومسلّماته الإيديولوجية.

وغير خافٍ ما أنتجه انعدام الحسّ التاريخي، وتضخّم الهاجس الإيديولوجي والسياسي، من أعمالٍ في تأويل الفكر الخلدوني، كانت بحقّ آيةً في التردّي والكاريكاتورية.

ثانياً: في مقاربته لدعوى الخصوصية في الفكر الفلسفي، نبّه ناصيف نصار إلى قضية مهمّة وحساسة، ألا وهي اتخاذ هذا الشعار مطيّةً لتبرير تصوّرات معينة، والدفاع عنها تحت ستار العقلانية، حتى أصبحت، مع بعض مفكّرينا، فلسفةً محكومة بمسبقات غير فلسفية، بل مجرّد أداة منطقية للوصول إلى هدف وُضِع مسبقاً موضع اليقين.

وما هو أدهى من ذلك أنّ هذه المؤلّفات الموغلة في عقيدة (خصوصية التفكير الفلسفي)، أصبحت تُستغَلّ من طرف جماعات وأفراد منقطعين عن العصور وعلومها - زادهم في الفلسفة ضعيف أو منعدم - من أجل إفراغ الفكر الفلسفي من محتواه العقلاني والتواصلي؛ أي صرنا أمام أفراد يحاربون الفلسفة بمضادّات التهموها على عجلٍ، وكأنّنا أمام غزاليين جدد، مع فارق كبير في العدّة والعتاد المعرفي.

لكنّ هذا الاتجاه - والحقّ يقال - ليس بدعةً عربية (وهو ما فات المؤلف التنبيه عليه أو الإشارة إليه)، فقد سبق إليه بعض الفلاسفة الغربيين (لاسيما الألمان)، حين ربط بعضهم بين القدرة على التفلسف وإتقان اللغة الألمانية أو اليونانية (هايدغر نموذجاً)، أو حين ربط آخرون بين انتعاش الفلسفة وازدهارها، وبين الهوية الثقافية والتراث الفكري والسياسي الإغريقي، واليهودي المسيحي (رينان وهيجل نموذجاً).

ثالثاً: فيما يتعلق بثنائية الدولة والسلطة، التي تطرّق إليها المؤلف بإيجاز، في القسم الثالث من الكتاب، كان من الأجدر أن تنال نصيباً وافياً من التحليل، لما يشكّله هذا الموضوع، اليوم، في الوطن العربي، من راهنيّة، في ضوء الثقافة السياسية السائدة، وتمثّل الفاعل السياسي لمفهوم الدولة؛ ذلك أنّه من الواضح أنّ كثيراً من الكتابات السياسية، فضلاً عن ممارسات جلّ الأنظمة السياسية العربية، وبعض التيارات المعارضة، التي يحكمها المنطق نفسه، تفتقد التمييز بينهما، وكأنهما مترادفان، عن جهل تارةً، وعن قصد مغرض تارة أخرى؛ حتى صار من البديهيات السياسية اختزال الدولة في النظام الحاكم، تهتزّ باهتزازه، وتتصدّع بتصدعه؛ بل تصبح الثورة على النظام شكلاً آخر من انقسام الدولة والكيان. ولعلّ مآل الحراك السياسي العربي الأخير، وأثره على بنيان الدولة، في بعض بلدان الوطن العربي، خير دليل على صحة هذا القول.

يمكن أن نوجز الفارق بين الدولة والسلطة في العبارة الآتية: إنّ الدولة كيان سياسي مؤسساتي، مجرّدٌ ومتعالٍ، لشعب، أو أمةٍ غايتها التعبير عن ماهية، وسيادة، ومصالح تلك الأمة بمختلف شرائحها ومكوناتها. تضعُ ثوابتها واستراتيجياتها العليا بإجماع، ولا تستبدل إلا بإجماع. أما السلطة، فهي تعبير عن توازن سياسي لا عن إجماع، وعن برنامج من جملة برامج مطروحة للاختيار، تتنافس في منافسة سياسية انتخابية، قبل أن يحسم الاقتراع بينها لصالح واحد منها؛ ولذلك، طالما أنّ السلطة تعبير عن تباين الرأي، وتنافس المصالح، تبقى عرضة للتغيّر بتغير ميزان القوى الذي يصنعها[49].

رابعاً: نظر المؤلف إلى العلمانية الرخوة (من منظور نمط مثالي)، باعتبارها أداة لتحقيق العدل والمساواة من جهة (أي المواطنة)، وبلسماً شافياً من داء الطائفية والفاشية الدينية، من جهة أخرى، وكنت أحبّذ، أولاً، استبدال هذه الكلمة، التي صارت، في مخيال الكثيرين (غالباً عن جهل أو سوء فهم)، رديفاً للإباحية والجاهلية، وإعلاناً للحرب على الله وسلطانه، بمفهوم آخر يكون أقرب إلى نفوس الكثيرين في العالم العربي والإسلامي، على منوال دعوة المرحوم الجابري إلى العقلانية والديمقراطية. وثانياً، يخطئ من يعتقد أنّ مشكلة توطّن العلمانية في الوطن العربي، سببها الممانعة الثقافية، وغياب القابلية لدى المجتمع؛ ذلك أنّ رهان الديمقراطية، والمساواة، والعدل، من مسؤولية الدولة أساساً، كما تظهر التجارب التاريخية، لاسيّما الأوروبية منها، التي تعمل، عبر مؤسسات التربية، والتنشئة، والتكوين، على خلق ثقافة منسجمة مع المضمون الديمقراطي لدستور الدولة. وغير خافٍ أنّ هذه المهمات الشاقة، التي تشتغل على الذهنيات، تدخل في إطار عمل استراتيجي بعيد الأمد، فهي آخر ما يتغيّر، ومِن ثَمَّ لا معنى لتحميل المجتمع مسؤولية الفشل، أو تأجيل المبادرة، بدعوى عدم توافر بيئة ملائمة، إلا إذا كان هذا التبرير سيُتَّخذ ذريعةً لإدامة الاستبداد والطائفية.

وثالثاً، لقد أبانت تجارب سياسية علمانية أنّها لا تقلّ شمولية وقسوةً (بل أكثر وحشية وبربرية) من الفاشيات التيوقراطية، فباسم المقدّس الطبقي، والقومي، والعرقي، وصنم الربح، والرفاه، ارتكبت دول علمانية جرائم في الداخل والخارج كان محصولها عشرات الملايين من القتلى، وما لا يُعدّ، ولا يُحصَى من المعاقين والجرحى، وإخلال مهول بنظام الطبيعة، وتوازنه.

وأخيراً، لم يتطرّق المؤلف، بدقّة، إلى العلاقة القائمة، اليوم، في البلدان العلمانية، بين الأخلاق والقوانين، وهل الثانية استمرار للأولى أو نسخ لها؟ وهل من معنى لإثبات المرجعية الأخلاقية، بعدما تجسّدت مضامينها في إطار مؤسسات قانونية ذات طبيعة خارجية زجرية وقمعية؟ وهل علمانية اليوم المقترنة، في معظم البلدان، بهيمنة المنظومة الرأسمالية على كلّ المجالات (تسليع الفن، والدين، والجسد...) يمكن أن تفسح المجال فعلياً لوجود مرجعية أخلاقية؟

ختاماً، لا نحتاج إلى تأكيد أنّ هذه الملاحظات والتساؤلات لا تصيب من عمق ومتانة الكتاب شيئاً، فقلّة من الكتّاب من يستطيع أن يجمع، في تأليفه، بين العمق والمتعة، وناصيف نصار واحد منهم.


لا أخفي أنّ اجتماع هاتين السمتين، فيما خطّه هذا المفكر اللبناني، تجعل من الصعوبة بمكان تكثيف ما كتبه دون تعسّف، فالموضوعات، التي طرقها مهمّة، ومقاربته لها جادة وذكية، ومن ثَمَّ، لا غنى للقارئ عن معانقة نصوصه في مظانّها دون توسط.
شاركه على جوجل بلس

عن Editor

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق