دراسات | بحث العلمانية العربية : جدل الإخفاق و رهان المستقبل .. بقلم مهدي جعفر .



بقلم: مهدي جعفر

شاءت الظروف في المنطقة العربية و الإسلامية في أواخر القرن 19م أن تختار التأزم ، مال حسن التدبير إلى فوضى ، و تقلصت الإدارة من الأطراف إلى المركز ، فرآنا الإتفاق و الوحدة من بعيد فهرب ، و تداعت الأسباب ممهدة الطريق نحو سقوط الإمبراطورية العثمانية التي اتخدت شكل الملك المعاوي الأبا سفياني و العباسي الذي سبقاها ، فامتثل العثمانيون للتهاوي و رضوا بالإستسلام بعد ظغوط داخلية و خارجية ، شلت قواهم و نخرت سياستهم ، و حطت كبريائهم ، بل و ضربت وحدتهم بعصى الفرقة و التشردم ، حيث كان ذلك إذانا بكتابة شهادة الوفاة لآخر امبراطورية إسلامية ، ممهدة طريقا غير متشظ برشفات قوة الإجتماع و هيبة اليد الواحدة ، من أجل قيام جروز دول  على شكل أقطار قومية ، كانت هدفا سهلا و لقمة سائغة سهلة التقلف ، من أجل استعمارها و احتلالها ، و استغلال ثرواتها إلى أقصى الدرجات الممكنة .

كل هذا يدفعنا للتساؤل عن : ماهية أسباب سقوط الدولة العثمانية ؟ و كيف ظهرت الحركات الإنفصالية ؟ كيف ولدت حركة القومية العربية الحديثة ؟ كيف اقتحمت العلمانية رقعة السياسة العربية ، و كيف أغرت هذه الحركات ذات الطابع السياسي حتى تتبناها كبديل للنظام الثيوقراطي أو الشبه ثيوقراطي القديم ؟ و ما مدى نجاح و ما مقدار فشل العلمانية في تسييس الشأن العربي العام ( سياسيا – ثقافيا – اقتصاديا و علميا ) ؟ كلها أسئلة و غيرها موضوع لهذه الورقة المتواضعة ، التي سنحاول أن نجيب عنها استسبابا للفهم و البيان .

على سبيل الإستهلال ، حري بالذكر أن في الوقت الذي دخلت فيه أوربا و الغرب عموما إلى قاعة الحضارة ، آثرت المنطقة العربية أن تبقى في قاعة الإنتظار . هم حين اختاروا طريق العقل و العلم ، و نحن لم نستحسن طريقا سوى التمسك بالتقليد و الإستئثار بالسلف – صالحه و طالحه – فكانوا هم يترجمون ثراتنا ، و نحن نكفر من ينتجه ، كانوا هم يشجعون العقلاء و نحن نمجد الجهلاء ، هم يبنون الجامعات و دور العلم ، و نحن نشيد الزوايا و الجوامع ، حتى انتشر العلم عندهم و ازدهر التنوير ، و تفشى الجهل عندنا و انكسرت الحكمة لصالح الخرافة ، و العقلانية لصالح الجهلانية ، و ذبل الإنفتاح ، فتفتح التعصب ، بل و أتخم المنطقة حتى الثمالة ، و الحال المزري لا زال مستمرا حتى اللحضة إن لم أقل أن أوراه قد حمي أكثر و ضحاياه قد تضاعف عددهم ، و عنفوانه قد تغلغل في النفوس إلى حد يبعث أحيانا على النفور من التفكير في حل لأزمة الإنبطاح التخلف الأصولية و الأردوثوكسية هذه ، و كأن الأمة العربية و الإسلامية اليوم منفية قدرها ، تشبه ذلك المريض الذي لا علاج له ، فيتمتم الطبيب في أذن ذويه ، ( احملوه لمنزله ، حتى يطمئن له الموت ) .

لعل حالة البؤس الحضاري هذه ما جسد السبب الداخلي لسقوط الدولة العثمانية فضلا عن كلاسيكية التسيير و التدبير و سوء الإدارة و الإستخفاف بالمشاكل ، و ترك الحلول للقدرية و الإعتباط ، و المبالغة في مدح النفس و الغلو في ذم الآخر ، ناهيك عن التنقيص من الرعية و المفاضلة بينهم حسب النسب و القرابة و الدين و المذهب ، فكان ذلك الخيط الذي مسك به الأجنبي و أحسن به الإستغلال لصالحه ، و هو الأخذ بيد الأقليات الإثنية المختلفة عرقا أو معتقدا أو مذهبا ، في تجسيد للسبب الخارجي الذي أدى بالعثمانيين بخطوات متسارعة نحو الإخفاق و العجز عن ظبط أمور الإدارة و الحكم ، و كأنها يد شيطان تدفعهم للسقوط في الزلل و ارتكاب الأخطاء و اتخاذ قرارات فاشلة مفشلة مشلة ، ذلك ما أجج برعاية أجنبية الحركات الإنفصالية التي ارتفعت حناجرها مطالبة بالإستقلال عن الإمبراطورية المحتظرة .

في مناخ هذا الضغط الأجنبي و بتأثير من حملته السياسية و الفكرية ، و في امتداد النتائج التي ولدها ، ” نشأت حركة القومية العربية الحديثة ” في صيغتها التاريخية الأولى لتنشأ معها أفكار الإستقلال و التحديث و تدهير الحياة السياسية ، فضلا عن تجهيز الوسط المناسب من طرف الأوربيين لنشأتها ، كانت الحركة القومية الوليدة تتغذى و تتنفس من أجواء السلطات المحلية اللامركزية التي لم تستطع مواجهة اغراءات الإنفصال الزاحفة مع زحف الأجنبي ، لذلك يمكن القول أن تظافر العامل السياسي ( السلطة المحلية المضمحلة ) مع العامل الفكري ( المثقفون القوميون المتشبعون بقيم النهضة و التحديث ) أتى يعطي هذه الحركة زخما كبيرا بحيث لم تفقد في مسار تطورها أحد طرفي المعادلة ، أي لا تكون حركة سياسية بدون قعر فكري يوجهها و يرسم لها آفاق الفعل و التطور ، مثلما لا تغدو محض موجة فكرية غير مسنودة بأي دعم سياسي داخلي  (1 )  .

لقد حشدت هذه الحركة في اطارها جملة من القوى التي بدأت ترى في الرابطة العثمانية إطارا معيقا لمصالحها الإقتصادية و السياسية الناشئة (2) , حيث تكونت هذه الحركة من برجوازيات وسيطة نامية في غير بقعة عربية و إن يكن نموها أشد بروزا في البقاع التي ازدهرت فيها الإمتيازات الأجنبية ، و أوساط ثقافية ليبرالية متنورة نمت مع نمو هذه البرجوازيات الوسيطة ، و أسر أرسطقراطي عربية تشد اليها قبائل و عشائر و وحدات اجتماعية تقليدية . حيث يلاحظ المستقرأ لتاريخ هذه الحركة أن مطالبها التي عاشت بين شعار الإستقلال و الإنفصال عن السلطنة و بين شعار إصلاح الإمبراطورية من الداخل (3) ، سواء بتحقيق مطلب الجامعة الإسلامية أو بتحقيق القدر الأكبر من اللامركزية و من المساواة القومية الكاملة في إطار الجامعة العثمانية (4) , لم تلبث أن حسمت حركتها في اتجاه محطة الإنفصال (5) , و قد لعب الضغط الأجنبي الدور الأكبر في تقرير هذه الوجهة من التطور خلافا لكل المزاعم التي ترى ذلك الإنفصال مسارا طبيعيا ذاتيا في الجسم القومي بل مطلبا شعبيا يفيض على النخبة السياسية المثقفة و يتجاوزها (6)  .

بعد كل هذه الأسباب -داخلية كانت أو خارجية – التي لم تترك للقيادة العثمانية سوى التسليم بالواقع و تقبل فكرة الإنهيار و التفكك ، و الإستقلال عن باقي الأقطار سواء في آسيا أو شمال افريقيا أو أوربا ، و الإكتفاء بقطر واحد ( هو دولة تركيا اليوم ) .

لكن الوقائع جرت بما لم تشتهي شعوب المنطقة حيث جرى احتلالها و استعبادها من طرف القوى التى تآمرت من أجل إسقاط الحكم العثماني الغير متكافئة قوته مع دهاء و نفوذ الأوربين ، و هنا نستطرد لنقول على سبيل التساؤل : كيف نفسر ركون الحركة القومية إلى وعود المستعمر في منحها الإستقلال و مهادنتها له ؟ (7) . هل ينطوي ذلك كله على مجرد وعي سادج مغلوط لهذه الحركة اتجاه “الرجل الأبيض” و رسالته و أهدافه ؟ لذلك يمكن أن نقول ما فحواه إذا كان علينا أن نسمي حركة القومية العربية كما تبدت في أواخر القرن 19 و بداية القرن 20م ، بهذا الإسم ، أليس علينا قبل كل ذلك، أن نتساءل عن مصادر قوميتها ؟ أليس النزوع القومي يتقرر داخليا لا يلبسنا جلبابه الآخر الخارجي ؟

الجواب عن هذه الأسئلة و غيرها ، هو الذي أشكل عن باقي أطراف الشعب العربي و الإسلامي ما جعله يعلن برائته من القومية العربية بسبب بلاء الكلونيالية التي ساعدت الغربي بسداجتها من أجل تطبيقه على الوطن العربي ، فهذا “تيار اليقضة الإسلامي” مثلا الذي كان موقفه رفض السياسة العلمانية لحركة القومية العربية ، و كبديل انكفئ إلى التاريخ و المنظومة الثقافية الإسلامية للبحث فيهما عن أجوبة سياسية ربما تساعد على تخفيف وطئة استغلال المحتل للمنطقة ، و بث الوعي الديني المناهض لتجريف المستعمر للعقل و الثقافة و الفرد العربي أو المسلم بشكل عام بكل مكوناته ، لذلك فتيار اليقضة وعى خطر التفكك و الفرقة الثقافيين ، مثلما أدرك أهداف الأجنبي في دفع الذات الإسلامية إلى مغادرة ثقافتها بنصب شراك العلمانية لها في شكلها في التضليلي الهدام ، و لا أقول التنويري في شكله البناء المقدم لشعوب أوربا و الغرب بشكل عام مثلا .

لقد كانت المسألة المركزية لدى هذا التيار مسألة سياسية لم تكن ثقافية رغم أنها ليست لبوس الإسلام ، من هنا مقوفها المعادي للعلمانية و العلمانيين العرب موقفا من التبعية للأجنبي ، بمعنى التسليم له بحق المسلمين في حق حكم شعبهم ، و التصرف باستقلال في ثروات أوطانهم ، و هو موقفا ضد مزيد من خطر الإختراق الأوربي (8)  .

فما سبب تبرأ باقي الأطراف و الفرق من حركة القومية العربية ، و ما سبب إخفاق مخططها السياسي التي تبنى من يومه الأول النهج العلماني بدل العمل بشرائع دين من أديان المنطقة ؟ و كيف دخلت العلمانية للعالم العربي ؟

كما أشرنا أعلاه فإن أعلام و مثقفي حركة القومية العربية كانوا متشبعين بقيم و مبادئ و أدبيات غربية ، كان حظ قسمة العلمانية هي الأوفر و الأكثر إعجابا بالنسبة لهم في قسمة إعجابهم بمنتجات الغرب الفكرية و الثقافية ، لذلك نقول و هذا ليس كشفا لسر ، أن هؤلاء القوميين هم أول من استورد هذا المفهوم الفكري ، و هذا النهج السياسي و عملوا على تطبيق مبادئ العلمانية في تربة ثقافية – لأول مرة – ربما لم تكن صالحة لزرع مفهوم مثل هذا ، خصوصا إذا كان له طابع سياسي له خصوصية بالغة التركيب و سمة أوربية خاصة ، ، و مستورع من عند الأجنبي الذي يعتبره أهل المنطقة – الذين هم على عهد قريب بتطبيق الدين كسياسة – “كافر ” .

على سبيل التدقيق يمكن القول إن العلمانية كتطبيق عربي ، من حيث هي نفي القداسة عن الممارسة السياسية وعدم إخضاع سلطات الدولة لسلطة ورقابة رجال الدين ، يمكن رصد بوادر إدخالها إلى العالم العربي والإسلامي بشكل دقيق ، ابتداءا من الصدمة الأولى التي أحدثها غزو نابوليون لمصر في نفوس العرب والمسلمين الذين اكتشفوا وضعية التخلف العام التي يوجدون عليها ، وهم خير أمة أخرجت للناس ، مقارنة مع وضعية التقدم والتفوق التي توجد عليها الأمم الأوربية المسيحية / الكافرة . ومن لحظتها طُرحت مشاريع متعددة ومتباينة لرسم أسس النهضة العربية . ومن تلك المشاريع المجتمعية ما دعا إلى تبني النهج الغربي / الأوربي في بناء المجتمع والدولة ، بحيث لا تبقى للمؤسسة الدينية سلطة على دواليب الدولة وأجهزة الحكم . وكان من رواد هذا التيار : سلامة موسى وشبلي شميل وآخرون .

ظلت تتنازع الأمةَ تيارات ومذاهب لم تسمح ، بسبب عوامل تاريخية وثقافية ، بالفرز الحقيقي لصالح هذا المذهب أو ذاك ، رغم المحاولات “القيصرية” التي أقدم عليها زعماء سياسيون أمثال مصطفى كمال أتاتورك لما ألغى نظام “الخلافة” ، أي ألغى الطابع الديني عن السلطة السياسية ووضع أسس دستور “علماني” يحظر الأحزاب الدينية والحكم باسم السماء . وكذلك تجربة الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة الذي سعى إلى جعل الممارسة الدينية شأنا فرديا لا تتدخل فيه الدولة بقوانينها ، أي لا تكون الدولة نائبة عن الله في إكراه الناس على عبادته ، كما لا تكون الممارسة السياسية شأنا دينيا يخضع لمراقبة الفقهاء وينضبط لمقياس الحلال والحرام . يضاف إلى هذا التيار العلماني الليبرالي تيار آخر هو التيار العلماني اليساري الشيوعي والاشتراكي ، والذي تعزز وجوده في العالم العربي بانتصار الثورة البلشفية وتأسيس الاتحاد السوفييتي ، وسيتقوى مع سياسية تصدير الثورة إلى بلدان العالم الثالث التي انتهجها السوفييت ، خاصة تلك التي كانت تواجه الاحتلال أو الاستبداد . إلا أن التيارين معا ، الليبرالي واليساري ، فشلا في بناء دولة علمانية متكاملة الأركان والأسس (9) .

لذلك نتساءل ، لماذا نجحت العلمانية في تركيا، وفشلت في ايران والعالم العربي بكل تفاصيلها و أشكالها ؟ لماذا اصبحت العلمانية اساساً راسخاً حتى الآن للنظام السياسي التركي، بينما هيمن رجال الدين على السلطة في ايران، وضاعت العلمانية العربية ، بين الأرجل! لماذا أثمرت شجرة أتاتورك في أنقرة و اسطنبول ، ولم يحالف التوفيق الفرس والعرب في نفس المجال ؟

نقرأ التاريخ و منهجية تنزيل المشروع العلماني على رقعة السياسة العربية لإستجلاء الإجابة ، حيث اختصر الأستاذ سعيد لكحل سبب فشل العلمانية في الوطن العربي و عزاها إلى أسباب كالتالى :

أ) فقدان النخبة العلمانية – يسارية وليبرالية – لمشروع مجتمعي متكامل و واضح المعالم ، كل ما كانت تقدمه هو عبارة عن ملامح مجتمع تسود فيه المساواة والعدالة الاجتماعية ، مجتمع يسترجع مواطنوه كرامتهم . من هنا لم تكن تلك النخب العلمانية قادرة على إشراك الشعوب العربية في بلورة مشروع واضح المعالم ، ومن ثم تعبئتها للنضال من أجل تجسيده على أرض الواقع ، وجعلها ترى فيه ذاتها وآمالها .

ب) التيار العلماني العربي لم يركز على الجانب الثقافي في مجتمعات ينخرها الجهل والأمية حتى النخاع بقدر تركيزه على الجانب السياسي ، ما شكل نظرة عرجاء للواقع .

ج) تجاوز التراث الثقافي الخاص بالشعوب العربية وعدم الاستناد إليه في تبيئة العلمانية كمفهوم وكبرنامج مجتمعي . بل إن فئة من العلمانيين حرفوا المفهوم وجعلوه في تعارض مع الدين أو مناهضا له . ولم يدركوا أن الشعوب العربية أشد ارتباطا بالدين من مثيلاتها في أوربا . فإذا كانت الشعوب الأوربية على استعداد لتجاوز الماضي وتهميش الدين ، فإن الشعوب العربية خلاف ذلك ، لأنها في وضعية تاريخية حرجة لا تملك ما تضاهي به شعوب الأرض غير ماضيها التليد الذي كانت لها فيه إمبراطوريات ذات قيمة و قامة عظيمتين .

خ) العلمانيون لم يؤسسوا مشروعهم على التراث المشترك بين الشعوب العربية ، و لم يستندوا إلى ما أنتجه رواد التنوير في العالم العربي ( قاسم أمين ، جمال الدين الأفغاني ، محمد عبده ، عبد الرحمان الكواكبي ، علي عبد الرازق ، طه حسين وغيرهم ) . لقد أحدث هؤلاء التنويريون ثقبا في الجدار لم يحسن العلمانيون استغلاله للنفاذ إلى هذا الوجدان العربي المتكلس ، وإحداث خلخلة تكون كقوة تتسرب منها أنوار التحديث ونسائم التمدن ، فكما أن التيار المحافظ لا يتوقف عن استغلال التراث وتوظيف الدين بعد بَدْوَنَته حتى يظل حاجزا ضد رياح التغيير وتيار العصرنة ، فإن التيار العلماني لا محيد له عن منافسة التيار المحافظ على أرضيته ، وتوظيف نفس سلاحه .

ح) انفصال الثقافي عن السياسي ، بمعنى أن النظم السياسية التي تولت الحكم عقب الثورة على الاستعمار أو الانقلابات العسكرية ، وضعت قطيعة مع الثقافي ، مما أفقدها مُنَظِّرين حقيقيين يرقون بالممارسة السياسية ويصغون لنبضات الشعوب . لهذا السبب لم يشهد العالم العربي ، في ظل هذه الأنظمة التي تزعم أنها علمانية ، ثورات ثقافية تحدث قطيعة مع الذهنيات الدوغمائية وتحرر العقول من أَسْرِ السَّلَف . إذ لا زال هذا السلف هو من يقرر مصير الشعوب ويحدد اختياراتها ويهيء ردود أفعالها إزاء الحداثة والتمدن والديمقراطية وكل قيم العصر وإبداعاته .

د) تحالف القوى المحافظة مع قوى الاستعمار والهيمنة على وأد مشاريع الإصلاح ، بما فيها المشروع العلماني في مهدها ، حتى تحافظ على مصالحها . وهذا التحالف اتخذ أشكالا عديدة ومستويات مختلفة . منها التحالف مع الأنظمة في ضرب مشاريع التحرر من الهيمنة الإمبريالية ، وما اغتيال المهدي بن بركة في المغرب إلا نموذج لاغتيال مشروع لم تكن القوى المحافظة وحلفاؤها يطمئنون إليه . كما أن تدخل بريطانيا المباشر في محاكمة الشيخ علي عبد الرازق على كتابه ” الإسلام وأصول الحكم ” .

من أوجه التحالف أيضا خلق وتشجيع التيار الإسلامي ، الذي هو الحليف الطبيعي للقوى المحافظة في مناهضتها لتيارات الإصلاح والتغيير خاصة التيارات العلمانية . لهذا جاءت الحركات الإسلامية تنوب عن الأنظمة المحافظة والقوى الدولية المرتبطة بها في محاربة المشروع العلماني والتصدي لرواده بالتكفير والاغتيال . ونذكر في هذا الصدد تحالف جماعة الإخوان المسلمين مع الملك فاروق الذي سيمنحها كل الدعم السياسي والمالي بمجرد مبايعتها له “وليا للأمر” ، لدرجة أن وزارة محمد محمود باشا أصدرت سنة 1938 قانونا يحظر التنظيمات شبه العسكرية مثل القمصان الخضراء ، مصر الفتاة ، القمصان الخضراء ، الوفد ، واستثنت فرقة الجوالة التابعة للإخوان           المسلمين . كما ساند الإخوان المسلمون حكومة إسماعيل صدقي  ضد أحزاب  الإصلاح(10) .

أما من جهته فقد قدم المفكر المغربي الدكتور عبد الإله بلقزيز ، بحثا ماتعا في هذا الصدد ، و هو المتخصص في شؤون و مسائل الحركات السياسية العربية ، حيث أرجع أسباب اخفاق العلمانية إلى مجالين ، الأول فكري و الثاني سياسي .

فأما سبب الإخفاق السياسي فيتجسد في أن العلمانية في قالبها العربي ( أو المستعرب ) لم تكن نتيجة أو حصيلة لتطور مجتمعي ذاتي داخلي بقدر ما كانت حصيلة للسيطرة الإستعمارية السياسية الإقتصادية و الثقافية على المنطقة العربية من طرف الأجنبي ، أي أن التطور الذاتي الثقافي و السياسي لم يفض إلى نشوء علمنة بما هي لحظة معرفية-سياسية ، بل إن الأثر الخارجي التدميري ( الإستعمار ) هو العامل الذي كان يعوض هذه الآلية من تطور الداخلي الغائبة و المفقودة دون أن يكون لهذا التعويض “فضل” الذهاب بالتطور الثقافي-السياسي العربي إلى ما هو أفضل مما كان ، أو على الأقل السكون به في حالته الطبيعية ، دون تشويهه أو الرجوع به نحو مزيد من التخلف ، فالتعويض كان له أثر معاكس و معنى مغاير و هو معنى اغتصاب التاريخ و مصادرته و إلحاقه بالتاريخ الغربي ، بعد اخراجه من دائرة الزمانية الخاصة به ، في تجريف فاحش للمكون الثقافي المحلي .

في امتداد هذا العامل ظلت القيم الموروثة تحتفظ بتأثيرها في الحياة اليومية ، و إذا كانت قد أخرجت ، بقوة الإختراق العلماني من الدولة و المجتمع السياسي ، فإنها انسحبت إلى المجتمع المدني و استحالت ( أو بالأحرى بقيت ) عقيدة الشعب ، بينما لم تنجح العلمانية في أن تكون عقيدة المجتمع و ظلت محصورة في نطاق النخبة التي أهلتها ظروفها الثقافية و السياسية إلى أن تتبناها و تعيش في كنف قيمها ، و لكن أيضا أن تعيش في نطاق ثقافي مع المجتمع المدني ( 11) .

أما عن الجانب الفكري ، فيعتبر بلقزيز أن الطفرة القومية اللبرالية العلمانية ستكون -هي أيضا- حصيلة مباشرة للإختراق الثقافي الأوربي و ليست تعبيرا عن تحول ذاتي في الجسم الثقافي العربي الذي يتحلل بموجبه الموروث و يتخلى عن أن يصبح نظاما للمعرفة و الفكر في المجتمع ، و في ظل هذا الإختراق -كذلك- ستتبلور ليبرالية مغايرة لمرجعها النظري الغربي (12) . و سيكون لهذه المغايرة ( الإختلاف ) مضروبة في سلطة الثقافة الدينية لدى الشعب و لدى بعض النخب أثر كبير في مأزق العلمانية ( في شكلها التضليلي لا التنويري ) و الفكر الليبرالي العربي عموما ، و ليست عزلتها و غربتها عن المجتمع الأهلي إلا تعبيرا عن ذلك المأزق – الإخفاق (13) .

هكذا نشهد في ظل ذلك الإخفاق الشامل ، عودة محمومة للتراث و إلى الدين و صعودا كاسحا للحركات الإسلامية ، خصوصا في النصف الثاني من القرن العشرين ، و ممكن أن نقول أن هذا التحول في المشهد الديني -السياسي و الإتجاه نحو استدماج الأديان مع السياسات كان الظاهرة الأكثر بروزا ، و هو ما لمسه كبار علماء الإجتماع في هذه الفترة ، حيث اعتبر ” دانيال هيفري ليجي ” أن أهم ما ميز مسارات الحداثة في عقد السبعينات من القرن الماضي ، هو ولادة حركات دينية جديدة ” Les nouveaux mouvements religieux ” ليس في الدول التي عرفت حداثة داخلية فقط ، بل كذلك حتى بالنسبة للدول التي استوردت مبادئها و قيمها ( مثل الدول العربية و الإسلامية عموما ) ، بل إن هذه الحركات ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا ، و كذا في إيران و أفغانستان (14).

و لم يكن العالم العربي الإسلامي بمعزل عن هذه التحولات ، فقد عرف بدوره أكبر ثورة شعبية اتسمت بطابع ديني ، و هي الثورة الإرانية 1979 ، فضلا عن ذلك عرف الشرق الأوسط صراعات و توترات و تصادمات بين كل الأديان و الحركات الأصولية ، سواء كانت يهودية أو مسيحية أو إسلامية ، على خلفية صراعات حول السلطة و الحكم و النفوذ في إطار حروب أهلية و غير أهلية (15) .

إذن حسب التحقيب الذي اتبعناه اتضح فشل العلمانية العربية لأسباب تارة تعلقت بسداجة برنامج من تبنى العلمانية ، و تارة بالمنهج التطبيقي الأعرج لهذا البرنامج ، لكن بالإيزاء نجحت العلمانية في تركيا مع مؤسسها كدولة حديثة ” مصطفى كمال أتاتورك ” ، فما سر نجاح العلمنة في تركيا و اخفاقها في بلاد فارس و الوطن العربي ، ما الذي ساعد على ازدهار العلمنة في شبه جزيرة الأنضول ، و ما الذي دفع بالعلمانية العربية و الإيرانية نحو الإخفاق ؟

للإجابة عن هذه الأسئلة ، يمكن التصريح بأن سبب فشل «نظام بهلوي» في ايران بتبني العلمانية مثلا ، كان سببه قوة ونفوذ أعداء و مبغضي العلمانية و هم رجال الدين ، و سلطة المرجعية الشيعية المنتشرة و المتغلغلة في نفوس و عقليات أفراد هذه المجتمعات التي عارضت العلمانية بشدة ، كسائر الهيئات الدينية في العالم الاسلامي، بما في ذلك العالم العربي.

غير أن من أفشل العلمانية في العالم العربي ومنع نجاحها وانتشارها لم يكن نفوذ رجال الدين وحدهم ، بل الحركة القومية العربية السادجة كذلك كما شرحنا أعلاه ، و في هذا الصدد يقول د.مجيد خدوري (2007-1908) احد كبار الباحثين العرب في الحركات والتيارات، موضحاً سبب انصراف العرب عن العلمانية و إقبال الأتراك عليها ، حتى قبل سقوط الدولة العثمانية ، حيث استنكرها الشباب العربي بعكس «الشباب العثماني»، ما يلي:

« كان الفكر العلماني الذي استهوى الشباب العثماني يهيمن على بيئة اسطنبول الفكرية التي ترعرع فيها العديد من القوميين العرب. وكان معظم الزعماء الذين عارضوا سياسة السلطان عبدالحميد الاسلامية يحاولون ابقاء الحركة القومية منيعة في وجه المؤثرات الاسلامية. لكن غالبية القوميين العرب رفضوا وجهة نظر العثمانيين الجدد بصدد الاسلام لأنهم، اي القوميين العرب، اعتبروا الاسلام وليد التراث العربي، فلم يرغبوا في الانفصال عنه. وبالفعل، فقد اعتز معظمهم، بمن فيهم المسيحيون، بالاسلام لأنه أكد، بصورة خاصة، اللغة العربية والطابع العربي للقرآن.

وكان هذا العنصر الثقافي الخطير هو الذي دفع المفكرين العرب الى اعتبار الاسلام من مقومات القومية العربية، بينما اعتبره المفكرون الأتراك عنصراً غريباً عن تراثهم الثقافي. فالاسلام هبط في الجزيرة العربية، مهد العنصر العربي، ومحمد كان نبياً عربياً وبطلاً قومياً في نظر العرب. كما ان القرآن لم ينزل باللغة العربية دون سواها وحسب، بل فُرض على جميع المؤمنين، مما دفع المسلمين من غير العرب الى تبني اللغة العربية والاسهام في التراث الأدبي الاسلامي والعربي» (16) .

فضلا عن ذلك فقد اتجهت تركيا بعد زوال الدولة العثمانية نحو سلسلة متوالية من التغييرات القانونية والسياسية والثقافية. فما ان أمسك «أتاتورك» بنظام الحكم، كما تقول «الموسوعة العربية الميسرة» حتى «شرع في حزم ونشاط كبيرين في تنفيذ برنامج واسع النطاق من الاصلاح الداخلي واقتباس النظم الغربية، فغير معالم تركيا تغييراً كلياً دون أية معارضة، وكان بالغ الصرامة في تنفيذ أحكامه، فألغى الخلافة 1924، وفصل بين الدولة والدين، واستبدل بالحروف العربية اللاتينية، وألغى الامتيازات الأجنبية، واستعمال الطربوش والعمامة والحجاب، وجعل القانون المدني يقوم على اصول التشريعات الأوروبية، بدلاً من الشريعة الاسلامية» (17) .

من ناحية أخرى، حدث ما يدعم نفوذ الدين في العالم العربي في المرحلة الحديثة. يقول د.خدوري:

«واستمد المفكرون العرب، مسلمون ومسيحيون على السواء، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، الالهام من اللغة العربية والتراث العربي لتطوير الوعي القومي وللدعوة الى هوية عربية منفصلة عن الهوية العثمانية. ونظر هؤلاء المفكرون الى الاسلام، باعتباره ثمرة من ثمار التراث العربي، كقوة روحية وكمجموعة من القيم الأخلاقية الضرورية للحياة. لكن هذه النظرة الى الدين، باعتباره من مقومات القومية، تنسخ المفهوم التقليدي القائم على الاخلاص للدين وحده».

ويضيف الأستاذ خدوري : «وفي أوائل العشرينيات ارعبت النزعة العلمانية الأوساط الدينية، فما كان من الزعماء القوميين، بدافع حاجتهم الى دعم هذه الاوساط في نضالهم من اجل الاستقلال، إلا ان سعوا الى مسايرتها باعلان تأييدهم الظاهري للاسلام. وبالاضافة الى ذلك، فقد نجم عن الاهتمام المتزايد بالدراسات العربية والاسلامية في المعاهد الوطنية والأجنبية إدراك بأن الدين والثقافة متداخلان، وبأن للاسلام اهمية في الحركة القومية العربية. وما أن بدأ بعض الكتاب ينشر آثاراً عن بعض جوانب الاسلام حتى قوبلت بالترحاب، مما شجع آخرين على السير في هذا الاتجاه بدل الاستمرار على نشر الأفكار الليبرالية والعلمانية. وفي الثلاثينيات صدرت كميات من الكتب كان الاسلام مادتها الاساسية، تراوحت بين القصص التاريخية والكتب المدرسية» (18) .

فضلا عن ذلك و كامتداد لهذا الفشل عربيا و فارسيا ، فجدير بالملاحظة أن الدولة في العالم العربي اذا كانت عاجزة عن استيعاب الفشل و اصلاحه ، فإنها اليوم بدأت تنحو نحو استغلال الدين لتنفيد أجنداتها السياسة من جانب ، و من آخر تستعمل المقدس لقطع الطريق على نمو تلك الحركات العلمانية اللبرالية و استيعاب ذيول اخفاقاتها .

هل المنطقة العربية في حاجة إلى العلمانية ؟

نقول نعم ، تحتاج إلى علمانية تنويرية بناءة ، لا تضليلية هدامة مثل التي طبقت في الماضي ، أكيد أن المجتمعات العربية يسري عليها ما يسري على غيرها من المجتمعات البشرية . لهذا لا يمكنها أن تحقق مستويات في التنمية وتقطع مراحل من التقدم إلا إذا خضعت لقوانين التاريخ وقوّة الواقع ومنطق الأشياء . ذلك أن الدول العربية مطالبة بتحديث بنياتها وتغيير نظمها أسوة بغيرها من الدول التي قطعت مع عهود التخلف . وأولى الخطوات التي يتعين على الدول العربية اتباعها هي إقرار الحريات وضمان الحقوق ، بحيث يسترجع المواطن كرامته وإحساسه بالأمان داخل دولته . وهذا لن يتحقق إلا بإرساء أسس دولة الجميع ، أي دولة الحق والقانون ، وإشاعة ثقافة المساواة وحقوق الإنسان . مما يعني بالضرورة رفع كل وصاية على المواطن ، وكل رقابة على ضميره . إن القمع والاستبداد هما أخطر عقبة في وجه التحديث والتقدم . ولن يُرفعا عن المواطن إلا بسيادة القانون وفصل السلط وضمان الحريات . وها نحن في صلب العلمانية . دون ذلك ستبقى ثروات الشعوب العربية معرضة للنهب ، وطاقاته للتبديد ، وعقول أبنائه للتجهيل والحجر .

إن الحرية والوصاية نقيضان لا يجتمعان . ومطلوب من المجتمعات العربية أن تعمل على استعادة حريتها وفرض إرادتها . أي أنها ملزمة بوضع نهاية للاستبداد السياسي الذي عمر قرونا عدة . كما أنها مُجبرة على التصدي لكل المشاريع المجتمعية التي تكرس الاستبداد ولا تضمن للأمة سيادتها على نفسها . لهذا لا خيار أمام العرب غير تبني العلمانية والديمقراطية والحداثة كسبيل أوحد لتجنيب الأمة السقوط في براثين التطرف الذي هو آخذ في الانتشار ، وسيأتي على كل المكتسبات الحضارية التي راكمتها الشعوب العربية في تفاعلها مع الحضارات والثقافات الإنسانية .

إن العلمانية ، بقدر ما هي تحرير للإنسان من الاستبداد ، هي كذلك تحرير للدين من الاستغلال . ذلك أن قيم الدين وتعاليمه السامية لن يكون لها تأثير إيجابي على الإنسان والمجتمع إلا إذا تمثلها في صفائها . وهذا لن يتحقق إلا في حالة تأميم الدين وتحريره من شبكة الاحتكار التي نصبها وينصبها يوميا أعداء الأمة والدين والعقل والإنسان . إن الإسلام ، كما غيره من الديانات السماوية ، لم يأت لشرعنة الاستعباد والاستبداد وقهر الأنفس وسلب الأرزاق وعقر الضمائر واغتيال العقول . فتكريم الإنسان يتأسس على ضمان حريته واحترام إرادته . وتلك غاية الدين الذي رفع كل وصاية عن العقل والإنسان . وفي هذا تلتقي العلمانية والديمقراطية مع الدين . أي أن الدين والعلمانية والديمقراطية ينطلقون من إقرار حرية الإنسان وضمانها . وكل التعاليم الدينية جاءت ترفض الإكراه والسيطرة ( لا إكراه في الدين ) ( لست عليهم بمسيطر ) ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومنا شاء فليكفر ) الكهف : 29 . فكما لا إكراه في الدين ، أيضا لا إكراه في السياسة . إن الغاية التي تتوحد عليها العلمانية والديمقراطية والديانة هي تكريم الإنسان وإسعاده وتحريره من كل وصاية أو عبودية أو استغلال . من هنا كانت العلمانية والديمقراطية وسيلة لتحرير الإنسان وتكريمه (19) .

على سبيل المثال :

حري بالذكر أن في العراق قدم أول حزب علماني ( الحزب الحر العلماني ) سنة 1969 مشروعا سياسيا للبلاد على أمل تطبيقه في أفق النصف الثاني للقرن 20م ربما لو ثم العمل به لامتدت فضائله حتما حتى الآن ،ق كل ما يجري اليوم في هذا الشعب الضحية للكهنوتية و الطائفية :

* لائحة المطالب و الأهداف التي لا تزال صالحة اليوم كما صلحت بالأمس :

1- تحرير العقل و الروح و نشر حرية التفكير و الكلمة و التصرف بكل الوسائل المشروعة .

2- العمل بلا هوادة و بكل الطرق القانوية من أجل فصل الدين عن الأنشطة السياسية .

3- الإحتجاج بقوة ضد أي عمل ديني يضر بوحدة الشعب .

4- تحقيق الأهداف المتركة وفق التغييرات التشريعية ، و ذلك بالمشاركة في الإنتخابات النيابية .

5- نشر التسامح الديني في كل ربوع الوطن .

6- فضح انحرافات رجال الدين في سلوكهم المناقض لجوهر الأديان ، و جمع ما شتته هؤلاء بالطائفية و المذهبية !

7- عقد اجتماعات عامة في الساحات المومية أو عبر برامج متلفزة بهدف تعريف الشعب بأحدث الأفكار العلمية و الإجتماعية … و اطلاعهم على آخر التطورات الدولية .

8- تحرير المرأة العربية من أغلال الإنحطاط و الجهل و الدونية .

9- ترويج مشاعر الإنسانية و المواطنة و الأخوة بين الناس .

10- النظر إلى كل البلاد العربية على أنها بلد واحد .

أترك لخيال القارئ تصور ما كان سيصبح العراق عليه من ازدهار و تفتح و تقدم و تنمية و تقبل للآخر و انفتاح على كل الثقافات ، لو طبقت هذه البنود , خصوصا و أن بلاد العراق أول من عرفت الحضارة في التاريخ ، كما يتميز هذا البلد الغني طبيعيا بجغرافية شاسعة و ترواث طبيعية هائلة ، فضلا عن ذلك الشعب العراقي في النصف الثاني من القرن 20م صنف كأكثر شعب قارئ مستهلك للكتاب على المستوى العربي ، و هو ما يشكل دافعة نحو التنمية بكل ضروبها ، لكم للأسف تخطفت الطائفية و المذهبية و الإسلام السياسي هذا البلد إلى أقصى درجات الهشاشة الإجتماعية و التقهقر الحضاري و التكفير و الدم (20) .

لذلك فالملاحظ إن نحن حدقنا بعمق في الواقع ، سنجد أن كل بلد إلا و يتميز بتنوع في الدين – الثقافة و الهوية ، وعليه فالعلمانية ( التنويرية ) تشرعن دستورا يقف ورائه كل أفراد هذا التنوع بغض النظر عن إنتمائهم الديني و العقدي و الطائفي و العرقي و السياسي و الأيديولوجي ، لذلك الدولة العلمانية لا تجعل الدين أساسا للمواطنة ، بل تفتح أبواب الوطن للجميع من مختلف الأديان ، حيث تتعامل الدولة بهذه الطريقة مع المواطن و ليس مع المسلم أو المسحي أو الملحد بل تضع كل هؤلاء وغيرهم في مرتبة واحدة ، دون مفاضلة أو تحيز .

من كل هذا ، أخيرا نقول أن المنطقة العربية قد تخشبت و ظمأة من كل معاني الحياة و السعادة ، فقد نخرت الخرافة عباب عقلها ، و طعنتها الطائفية و المذهبية طعنات نجلاء ، و سكن التخلف ديارها مدة تزيد عن سبعة قرون ، و اصطبغت قرارات سياستها بالنزقية ، فالمنطقة العربية في حاجة ماسة لأنوار العلمانية ، في حاجة لتطبيق مبادئ علمانية تنويرية بناءة ، لا تضليلية هدامة و مغايرة تماما لتلك التي طبقت على الوطن العربي بشكل مخزي فاشل ، و لازالت تطبق بطريقة تملقية تهدف لقضاء المؤارب السياسية لمن يتباها ، و ليس لتنفيذ الأوراش الكبرى التي إن لو تم الإشتغال على إنجاحها بشكل جدي معقول ، لأمكن معالجة الكثير من أمرض الأمة ، و إخرجها من هذا المأزق الحضاري التي تعاني منه منذ زمن ليس بالقصير .

صوت العلمانية



شاركه على جوجل بلس

عن Editor

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق