مقال بحثي| عن العلمانية..بقلم: نواف الركاد.


بقلم: نواف الركاد
 باحث سياسي ، متخصص في
 العلاقات الدولية كاتب في عدة
 صحف سابقا كاتب سوري مقيم
 في ألمانيا من مدينة القامشلي
مرت البشرية خلال حقبها التاريخية بمجموعة من النظم السياسية والاجتماعية كالنظام القبلي و الملكي و الإمبراطوري و القومي و الفاشي ، كما مرت الأفكار الإنسانية بسلسلة طويلة من التطور ( مصدر طور والجمع أطوار ) المعرفي تجاه قضايا الكون و الإنسان ومعنى الحياة و أصول التنظيم المجتمعي . ولعل القفزة الكبرى للعقل البشري كانت في اكتشاف فلسفة العلمانية التي أيقظت الإنسان من سباته الدوغماطيقي ( أي الإيمان بحقيقة مطلقة ) إلى لحظة الصحوة و النور وإبصار قيمته في رسم مصيره و امتلاك ناصية قراره .


لمحة تاريخية عن جذور مفهوم العلمانية :
في أواسط القرن السادس عشر الميلادي ألف العالم الفلكي والرياضي البولندي ( نيكولاس كوبرنيكوس ) كتابا اسمه ( حول دوران الأجرام السماوية ) والذي يقول فيه للمرة الأولى بأن الأرض تدور حول الشمس ضاربا بذلك الاعتقاد السائد لأكثر من ألفي عام بأن الأرض هي مركز الكون وأنها ثابتة تدور كل الأجرام السماوية والكواكب حولها . ما أثار غضب بابا روما آنذاك من هذا الفتح العلمي الجديد رغم عدم وجود أي نص في الإنجيل المقدس يخالف هذا الرأي العلمي . و لكن السبب يعود إلى أن السلطة الكنسية قد اخترعت هذه الفكرة لتقول بأن العقل الإنساني ثابت مطلق تجاه كون متغير ومتحول ، فجاء رأي كوبرنيكوس ليقول غير ذلك بأن الأرض تدور والدوران يعني الحركة والحركة تعني تغير والتغير يعني النسبية ، و طالما أن الأرض تدور فهذا يعني أن الإنسان أيضا يدور و بالتالي لا يمكن لعقله النسبي أن يقتنص الحقيقة المطلقة .
أعقب هذا القرن المؤسس لفلسفة العلمانية ، القرن التالي السابع عشر و الذي شهد انفجار الصراع الديني و إنهائه بتدشين عصر الدول القومية The Nation State أو ما يعرف بالدولة الأمة و بضرورة تأدية رجال الدين قسم الولاء لملوك أوربا الوطنيين . ثم تطورت بعد ذلك نظريات العقد الاجتماعي على أيدي هوبز و لوك و جان جاك روسو .
ظهر مصطلح العلمانية The Secularity لأول مرة من قبل المثقفين الإنكليز الأحرار ( جورج هوليووك ورفاقه ) في أواخر القرن التاسع عشر ، ويعود أصل هذه الكلمة إلى مصطلح seculum اللاتيني الأصل و الذي يعني العالم المتغير والتي تعاكس مصطلح Mundus العالم الثابت .

ماذا تعني العلمانية :
أسهب المفكرون والمثقفون حول العالم بشرح معنى هذا المصطلح نظرا لأهميته الفكرية الهائلة و التي أنتجت طفرة حضارية نقلت الإنسانية إلى تشكيل عالم جديد لا يشبه بحال كل العوالم التاريخية السالفة .
فمنهم من راح يسطح المعنى بتبسيط مخل ( فصل الدين عن الدولة ) متناسيا أن الشعب هو أهم أركان الدولة و هذا ما لا تعنيه العلمانية . و منهم من قال بأنه ( فصل السلطة الزمنية عن السلطة الروحية ) و هذا التعريف على بلاغته إلا أنه تفسير بدائي يتمحك بلغة الكنيسة . وراح آخرون ليقولوا بأنه فصل الدين عن السياسة فنتج بذلك صراع مفتوح بين التيارات الدينية و العلمانية .
حتى أتى الفيلسوف المصري مراد وهبة ليضع حدا لهذا الاشتباك المعرفي بتعريف بالغ السهولة و العمق و الدلالة و عدم إمكانية التناقض ، فقال : " العلمانية هي التفكير النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق ".
أي أن الإنسان ذا العقل النسبي أصلا و الذي يستحيل عليه أصلا اقتناص الحقيقة المطلقة و امتلاكها ( بسبب محدوديته في الزمان و المكان و الحواس ) لا ينبغي له أن يسلط النص الديني ( اليهودي - المسيحي - الإسلامي وغيره ) على الأحوال الإنسانية المتغيرة باستمرار و المشاكل والاحتياجات البشرية المتبدلة دائما . و يضرب الفيلسوف على ذلك مثالا : مشكلة انفجار السكان هي أزمة بالنسبة لمصر لكنها نعمة بالنسبة لروسيا الاتحادية مثلا (لو حصلت بسبب شساعة أراضيها وقلة قاطنيها ) فهي نسبية إذا ، لذا لا يمكن أن تعالج هذه المسألة بنص ديني واحد يتسم بالديمومة والثبات على مسألة متغيرة ونسبية من مكان إلى مكان ، ومن زمان إلى زمان إن رأت الدولة المصرية بعد ثلاثين عاما على سبيل المثال ضرورة زيادة عدد السكان .

عناصر العلمانية :

النسبية : أي تفتيت وهم امتلاك الحقيقة المطلقة بسبب استحالة ذلك على قدرات العقل البشري . و بهذا لا يستطيع رجال الدين ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة و تعطيل سيرورة الحضارة ، لأن توهم امتلاك الحقيقة المطلقة من شأنه منع الحضارة الإنسانية من التقدم لتأتي العلمانية فتنقذ الحضارة .
وكذلك نفهم بأن الاتحاد السوفييتي ليس علمانيا لأنه باعتناقه للشيوعية حولها إلى حقيقة مطلقة ، و القوميون العرب لا يمكن أن يكونوا علمانيين لذات السبب و القوميون الكرد الذين يدعون العلمانية و هم لا يرون تحقيق الذات الكردية لكرامتها و حريتها دون قيام دولة كردية واحدة .
وكذلك فعل هتلر و موسوليني و جمال عبد الناصر وأنطوان سعادة و فيديل كاسترو و الخميني و أبو بكر البغدادي ...
فوظيفة العلمانية هي تحطيم الأيديولوجيا ( الدوغما ) لأن الأولى نسبية و الأخيرة مطلقة .

العقلانية :
هو الفكر الذي يحتكم إلى الاستنتاج ( أو المنطق ) كمصدر للمعرفة أو للتفسير و من العقل معيارا للحقيقة بدلا من المعايير الحسية أو الماورائية .
وبهذا ينتصر العقل الإنساني الحر من أي مؤثر خارجي على الطبيعة و الصراعات ، دون الحاجة إلى إعارته أبديا إلى طبقة رجال الدين أو إلى التيارات الأيديولوجية التي تقولب التاريخ و الفكر الإنساني بقراءات مسبقة أو تصورات وصفات جاهزة .
وبعبارة أخرى فالعلمانية تسعى لجعل التفكير العلمي منافسا حقيقيا لأي تفكير ديني أو أسطوري .

الحرية :
لم يجادل أي فيلسوف غربي أو عربي بأهمية الحرية من عدمها ، بل في حدودها بما لا يؤذي الآخر و المجتمع و الدولة ( المعبر عن إرادة المجموع العام للناس ) ، وبهذا تصون العلمانية حرية الأفراد الشخصية في التعبير و المأكل و المشرب و الملبس و العبادة و التنقل و العمل ضمن ضوابط العقد الاجتماعي ، كما تصون لهم حرياتهم العامة كافة. و هذا لعمري خير دليل على بهتان الادعاء القائل بعلمانية النظم العربية المعاصرة .

التسامح وقبول الآخر :
تشترط العلمانية حماية القوى المجتمعية من جميع مسببات التصادم و الاصطراع ، عبر ديناميات حقوقية تثبت المساواة بين المواطنين بصرف النظر عن مشاربهم الفكرية أو أصولهم الإثنية أو مذاهبهم الطائفية ، كما أنها تتوفر على أسس فلسفية تمنع التمييز ضد المختلف كما جاء في " رسالة التسامح " لجون لوك .

أسئلة حول العلمانية :
هل العلمانية ضد الدين أو أنها تحارب التدين ؟
العلمانية هي موقف فلسفي و نمط في التفكير وليست أيديولوجيا ، لذا فهي تحمي الدين من عبث السياسيين به و تحمي السياسيين من عبث رجال الدين .
هل يمكن أن يكون الإنسان علمانيا و متدينا في آن معا ؟
نعم ممكن ، طالما أن الإيمان بقي في حيزه الفردي و لم يأخذ طابعا قاهرا للآخر . فالإنسان طالما أنه يحترم الآخر ( ذكرا أم أنثى ) و لا ينتقص من أهليته لأي سبب كان و يلتزم بقوانين المواطنة ولا يتمرد عليها فهو يستطيع أن يمارس عباداته وشعائره و قناعاته الدينية كما يحلو له ، بل واجب الدولة أن تحميه و توفر له كل ما يلزم .
لماذا يشوه الإسلام السياسي العلمانية ؟
لأن العلمانية تفتت وهم امتلاك الحقيقة المطلقة و تجعل الناس متساويين وهذا يحرم أنصار الإسلام السياسي من وجاهة احتكار فهم الدين و قد يمنعهم من استلام السلطة باسم الدين .
ما هو دور رجال الدين في المستقبل حسب الرؤيا العلمانية؟
ترى العلمانية بأن دور رجال الدين محصور في تنشيط عملية الإصلاح الأخلاقي و شرح العبادات للناس و ممارسة الدعوة ضمن أطر القانون والخضوع الكامل لسلطان الدولة ، مع حقهم الكامل كمواطنين بالتمثل في المجالس النيابية و استلام جميع مناصب الدولة شريطة الالتزام الكامل بالدستور و المواثيق المنشئة للدولة .
ما الرابط بين العلمانية و الديمقراطية ؟
العلمانية شرط رئيس للديمقراطية و لا يوجد نظام ديمقراطي حقيقي غير علماني بدءا من تركيا و انتهاءا بالولايات المتحدة الأمريكية . لكن هناك علمانيون متطرفون بعدائهم للأديان صنعوا نظما غير ديموقراطية .

خاتمة :

إن انفجار أدواء التاريخ الدينية والطائفية والقومية في وجه أحلام شباب الربيع العربي غير المؤدلج و المنتمي إلى فضاءات رحبة من القيم الإنسانية المشتركة القائمة على ثقافة حقوق الإنسان و الحرية و الكرامة الإنسانية ، تستلزم استنفارا كبيرا من جميع النخب الفكرية المثقفة للترويج الفلسفة العلمانية من أجل إنشاء الدولة الوطنية الحديثة القائمة على فضيلة الديمقراطية و نسبية التفكير الإنساني . حفظا لسلامة الأوطان من التمزق المذهبي والاحتراب القومي و منعا لتشكل لبنان و عراق جديدين في المنطقة ، بل أجزم أنه الدواء الناجع لكل الأمراض الاجتماعية المزمنة في المنطقة و الماء الذي بإمكانه أن يطفئ حرائق التاريخ للانطلاق بثقة في إعادة إعمار البلاد والإنسان واللحاق بركب الأمم المتحضرة .

نشرت في العدد/ 0 / كانون الأول /2016 لمجلة صوت العلمانية
 جميع الحقوق محفوظة لرابطة العلمانيين السوريين © 2016  
شاركه على جوجل بلس

عن Editor

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق