بحث | نقد الخطاب الإسلاموي ج1 بقلم: أحمد الرمح العدد1 صوت العلمانية.




بقلم : أحمد الرمح

كـاتب وباحث سوري
 يـكتب فـي إصـلاح الفكر
 الديني عضو المنتدى 
العالمي للإسلام الديمقراطي
دون أدنى شك الفارق كبير بين خطاب النبوة والخطاب الإسلاموي المعاصر؛ فخطاب النبوة كان تشاركيًا مع الأطراف المعاصرة له دون إلغائية فكرية أو فيزيولوجية؛ وأما أحاديث الإلغائية المنسوبة له فإنها لا تصمد أمام آيات الدعوة والرحمة والإنسانية مهما حالوا الدفاع عنها؟ وفي هذا الجانب نجد عديد الآيات في ثنايا سور القرآن الكريم؛ منها على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى:
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ.(يونس:108)
وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ.(الكهف:29)
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ.(الغاشية:12+22)
ولم يتوقف خطاب النبوة عند الدعوات النظرية إنما مارسها سلوكًا إنسانيًا؛ وجعل من التشاركية هدفًا استراتيجيًا له؛ وأكتفي بإنارتين في هذا الإطار؛ تتمثل الأولى بصحيفة المدينة التي احتوت المكونات الاجتماعية والعَقَدية كلها من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية وحماية الموطن، والثانية سلوك النبوة مع قريش عند فتح مكة؛ إذ لم يتعامل معهم بثقافة الانتقام أو الثأر؛ إنما ذهب باتجاه التشاركية معهم؛ ليؤسس ثقافة العفو ذات الأصل القرآني دون إكراه لأحد على الإسلام؛ حتى أنه استعان لوجستيًا بما يملك رأس الشرك(صفوان بن أمية) من عتاد في معركته ضد (حُنين).
أما الخطاب الإسلاموي المعاصر فيعيش أزمة أنتجت سلوكًا إلغائيًا للآخر؛ طغى عليه المنطق الداعشي؛ حتى وصل إلى(مكارثية)غير مسبوقة؟ ولا شك بأن تيار الإسلام السياسي عانى اضطهادًا بشعًا من الأنظمة المستبدة؛ وخلافًا حادًا مع بعض العلمانويين؟! ولكن ذلك ليس مبررًا على الإطلاق أن يذهب في ثقافية الكراهية تجاه الآخر؛ حتى أسس للإلغاء الفيزيولوجي وبرّره بفتاوى تكفيرية للأقدمين استباحت الآخر؛ وقطّعت خيوط الوصل معه إلى أمد بعيد!؟.
ولكن: ما أسباب أزمة هذا الخطاب؟.
لا أريد أن أتحدث عن الجانب الموضوعي في هذا المقام؛ وقد أشرتُ لبعضه آنفًا؛ إنما أريد البحث في الذاتي إيمانًا مني بأن المراجعات والنقد البناء في معالجة الخلل أنجع بكثير من ترحيل الأزمة تجاه الآخر.
الحقيقة التي يجب أن نعترف بها أن ذلك الخطاب ابتعد كثيرًا عن الخط القرآني ذي المقاصد الإنسانية التشاركية؛ واقترب كثيرًا من الاتجاه القطيعي الإلغائي؛ فالتربية الدينية لدينا يشوبها كثيٌر من الخلل؛ جعلها خارج النسق الحضاري المتعايش مع الآخر، وتحتاج إلى إعادة بناء معرفي وإنساني حتى يصمت خطاب كراهية الآخر واستعدائه مجانًا مما يؤدي إلى خسائر استراتيجية ضارة بحال المسلمين وسمعة الإسلام؛ وتتوقف عملية هدر الطاقات الشبابية التي نفتقدها يوميًا بتقديس ثقافة الموت وكراهية ثقافة الحياة؛ وإليكم بعض أسباب الأزمة.
أولًا: اعتماد الماضوية كمرجعية في الخطاب:
يعتمد الخطاب الإسلاموي المعاصر كثيرًا على مذاهب السابقين وفتاواهم التاريخانية وهي رؤى ماضوية لها ظروفها؛ ليجعل منها الموجه الأساس لفكره وسلوكه؛ فما أفتى به الفقهاء القدامى على ملٍة ما أو طائفة أو جماعة؛ لا يزال التعامل معه كمقدس تراثي واجب الأخذ به؛ لذلك نجده حاضرًا في الخطاب الإسلاموي؛ وكأن الأجيال المعاصرة من تلك الملل أو النحل هي نسخة طبق الأصل من أسلافهم الذي يبتعدون عنهم زمنيًا أكثر من ألف سنة دون الأخذ بعين الاعتبار تغير شكل الدولة وتطوره وطرائق تعاملها مع مواطنيها؛ وبالتالي فإن اعتماد الأحكام الماضوية على ذرية الآخر المتعايش معنا ويحمل تطابقًا كبيرًا مع همومنا أدت إلى أزمة يعيشها الخطاب الإسلاموي في التفريق ما بين عصرين مختلفين في الشروط والواجبات؛ عصر الاختلاف وعصر المواطنة؟ عصر الإمبراطوريات وعصر دولة المواطنة؟ فاعتماد الخطاب الماضوي وضع تلك ذرية مع أقدميهم في سلة واحدة هي عقلية (شنآنية) مرفوضة قرآنيًا، إذ أنّ المبدأ القرآني يقوم على:
وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.(الأنعام:164)
في حين أن الخطاب المعاصر مصٌر على أنّ هذا الخَلَف يحمل الأفكار ذاتها للسلف؛ وهذه النمطية في التعامل بحاجة كبيرة لمراجعات جادة.
ثانيًا: ثقافة السلة الواحدة؟
سيطرت الماضوية وتأثيرها في البنية الفكرية الإسلامية؛ جعلته يسير عكس الاتجاه القرآني في حكمه على جماعة ما أو شعب أو طائفة بعينها؛ ليحكم بشمولية كما لو أنهم من ذات النمط التفكيري أو الاعتقادي لإسلافهم؛ وهذا التعميم في الخطاب الإسلامي ووضع الآخر في سلة واحدة مرفوض قرآنيًا وأخلاقيًا؛ إذ أن القرآن الكريم يرفض ثقافة السلة الواحدة؛ ويُفرِّق بين أبناء المجموعة الواحدة؛ ولهذا وجدناه بحديثه عن اليهود في ذروة الخصومة الاعتقادية لا يضعهم في سلة واحدة إنما يفرِّق بينهم إذ قال:
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.(الأعراف:168)
ورفض القرآن ثقافة السلة الواحدة تجاه الآخر المختلف معك عقائديًا:
لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ.(آل عمران:113)
وأكد أن منهم الأخلاقي في المعاملة ومنهم ما دون ذلك:
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً.(آل عمران:75)
هناك رجالات وشعوب تعاطفت مع قضايانا مايزال الخطاب الإسلاموي يوصمها جملًة واحدة بالكفر والإلحاد والصليبية؛ ليضعهم جميعًا في سلة واحدة، رغم أن خطاب النبوة لم يتحدث مطلقًا بهذه اللغة! فعندما ضاقت الأرض على المؤمنين في مكة؛ نصحهم بالذهاب خارج أرض العروبة بقوله: إن في الحبشة ملك لا يُظلم عنده أحد. كما نتذكر في هذا العصر جماعة حراس المدينة اليهودية(ناتوري كارتا) وموقفها المشرف من الصهوينة.
فإن أردنا أن نخرج من ثقافة القطيعة؛ لنكسب الآخر حتى يكون محايدًا على الأقل؛ علينا أن نبتعد عن خطاب السلة الواحدة؛ فدائرة الأخوة الآدمية المُكرمة من الله تسعنا جميعًا؛ ودونها دائرة الإيمان بإله واحد؛ وكذلك دائرة المتعاطفين مع قضايانا، ولنا في هذا المقام(الأب باولو)المتعاطف مع السوريين وما فعلت به ثقافة السلة الواحدة؟! والأولى من هؤلاء وأولئك أبناء جلدتنا من علمانيين وقوميين وأمثالهم من المكونات الأخرى التي لا يستطيع أحد إنكار وطنيتهم وتفانيهم وإخلاصهم؛ فليس من العدل وضعهم في سلة واحدة والحكم عليهم ككفار ومرتدين وخصوم.
السبب الثالث: المنطلق المذهبي؟.
الخطاب الإسلاموي ما نفك حتى اللحظة خطابًا مذهبيًا مقعرًا يرفض مَنْ هم داخل الدائرة الإسلامية السًنية لاختلافهم معه في اجتهادات فقهية أو رؤية اعتقادية متناسين أن مصطلح مذهب يعني وجهة نظر اجتهادية لم يدّعي صاحبها العصمة ولا قال بصوابيته المطلقة إلا أن أتباع المذاهب ذهبوا إلى قطيعة مخجلة فيما بينهم؛ وحتى فترى قريبة كان الدمشقيون يؤدون الصلاة الواحدة بأربع جماعات ولا تزال محاريب المذاهب الأربعة موجودة في الجامع الأموي  حتى يومنا هذا.
لا نزال نعيش مصطلحات عند المؤدلجين لم يعد لها وجود في عصرنا؛ لكن أصحاب هذا الخطاب أعادوا انبعاثها اليوم بين الفصائل الإسلاموية المتعسكرة؛ حتى سمعنا مصطلحات في الحالة السورية اندثرت منذ أكثر من ألف سنة؛ أُعيد إحياؤها ليعمقوا الجرح السوري؛ ويستمر نزفه كمصطلح (حَروري ومُرجئي وأشعري وماتريدي...إلخ) وحملوا السلاح ضد بعضهم بعضًا! وسفكوا الدماء فيما بينهم؛ ففقدوا ثقة الناس واحترامهم؛ ما نزال بسبب هذا الخطاب المذهبي نكفِّر المعتزلة لإعمال عقولهم، ونجَرِّم المرجئة لأنهم تسامحوا مع المخطئ دنيويًا، ونفسَّق أهل الكلام لأنهم ناقشوا وتأملوا وفكروا؛ ونبحث عن ابن رشد معاصر لنحرق كتبه، ونرفع راية الحاكمية لله لنكفر الآخر سياسيًا؟!.
إنّ المنطق المذهبي بدلّا من أن يدفعنا للتسابق في خدمة الإسلام جعلنا طوائف وشيعًا ومذاهب تتصارع على الإسلام؛ همها نُصرة مذهبها؛ فعقلية (الشنآن) انتقلت من كراهية الآخر إلى كراهية من يختلف معهم في الرؤية المذهبية أو الاجتهاد المذهبي.


شرت في العدد/ 1 / كانون االثاني /2017 لمجلة صوت العلمانية

 جميع الحقوق محفوظة لرابطة العلمانيين السوريين © 2016  
شاركه على جوجل بلس

عن Editor

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق