مقالات | جودت سعيد: الهجرة إلى الإنسان صالح عمر عبد النور


 صالح عمر عبد النور - يقظة فكر
رغم رحيله القسري عن أرضه وبيته في بئر عجم بسوريا بشكل لم يسعفه حتى في لبس حذائه الجيد كما يروي، ورغم مقتل أخيه محمد مقنوصا بعد يوم من رحيله ذاك لا يزال جودت سعيد* مستميتا في بيان أهمية فكرة اللاعنف، وكأنه يكابد مذهب ابن آدم الأول ويتألق تألقه المذهل (لئن بسطت يدك إلي لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك) المائدة:28.
ها هو الأستاذ يعلن رؤيته تلك دونما مواربة: (إذا نجحت الثورة السورية بالسلاح فسنظل محكومين بالسلاح الذي نحكم به منذ  1400 سنة من حكم معاوية إلي يومنا هذا. كل من أخذ بالسيف، بالسيف يهلك، والديمقراطية لا تحل في بلد إلا إذا أجمع الفرقاء فيه على الاحتكام لا إلى القوة بل إلى الصندوق. هذه أشياء بدهية ولا يتكلم بها أحد…).
وهذه رؤية تبدو جريئة ضمن هذا الهرج والمرج الحاصل في بلده وفي العالم العربي، ويبدو أنه تعرض جراءها لهجوم عنيف اتهم فيه بالتواطؤ، غير أنه ظل يردد أن لا أهمية كبيرة لشخصه أمام ما يؤمن به ما دام على بينة من ربه، (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) هود:28. ولذلك ظل على يقين تام بأن الذي يحدث سوف لن يؤول إلا إلى ما ظل يؤكده منذ ما ينيف عن نصف قرن. وهو يستمد يقينه من وثوقه بسنن الآفاق والأنفس التي هي عنده المضمون الوجودي لمفهومي الإيمان والتوحيد الغيبيين، (ولكن انظر إلى الجبل) الأعراف:134.
جودت سعيد الذي يتهم نفسه دائما بأنه ضعيف البيان يأسرك ببساطته وعمق فكرته في آن، وأكبر همه أن ينال مستمعيه بشيء من جذوة أفكاره وأشجانه تماما كما نالت نار التبريزي من مولانا الرومي. ولذلك تجده يعرف نفسه كأي إنسان عادي ولد بمحور طنجة جاكرتا، غير أنه يؤكد أنه مسكون بسؤال الوجود والحقيقة وليس لديه مقدس، وهو لا يفتأ يقارب لحظة ميلاده الفكري بصدمة كتاب (شروط النهضة) لبن نبي عندما كان طالبا أزهريا بالقاهرة، ومنذ ذلك الحين وهو يحاول الامتداد بفكرة القابلية للاستعمار إلى نهاياتها اللاعنفية.
أثرت تجربة الاعتقال في جودت سعيد فأعلن في الستينات من القرن الماضي عن مذهب ابن آدم الأول منطلقا من تاريخ إنسان ما بعد الموحدين في اكتشاف مبدأ الرشد، ولكنه نادى في النهاية بفساد حق الفيتو من منطلق إنساني أسسه على التاريخ باعتباره (عاقبة الذين من قبلهم) يوسف:109، والذي ليس عنده سوى أحاديث بحاجة إلى تأويل (فجعلناهم أحاديث) سبأ:19.
يؤمن جودت سعيد بعقل الإنسان (وعلم آدم الأسماء كلها) البقرة:31 ويعارض قتل المرتد باعتباره شكلا من أشكال الإكراه (لا إكراه في الدين) البقرة:256، والإكراه عنده (من الصفع إلى القنبلة النووية) خارم عظيم لإنسانية الإنسان ومن ثم فهو يدعو إلى تجديد قراءة القرآن وإعادة اكتشافه في تعريفه بالله وفي تصوره للإنسان (إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة:30، وتسخير الكون له (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه) الجاثية:13..، الإنسان والكون من حيث هما صيرورة (فانظروا كيف بدأ الخلق) العنكبوت:20، وذلك بعيدا عن الآبائية من أظهر إلى أخفى أشكالها، مستلهما من إقبال معنى ختم النبوة الذي هو عنده دعوة واضحة إلى ارتياد الآفاق والأنفس عبر السير العاقل في الأرض (فانظروا).
ولذلك تجده في تأسيسه لمبدأ الرشد (اللاعنف) يرى أن الجهاد لم يكن أبدا لإكراه الناس على الإسلام، بل لرفع الإكراه عنهم حتى يعتنقوا ما شاؤوا بحرية (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) الكهف:29.
الحرب عند جودت سعيد ماتت ولا يمارسها إلا الجهلة والمغفلون الذين باعوا قضيتهم لأعدائهم الخبثاء ابتداءً، وهنا يضعنا أمام صورتين قائمتين هما صورة النهضة اليابانية بعد مأساة هيروشيما التي قادت إلى استسلامه، وصورة الانتكاسة السوفياتية وتفكك اتحاده على تسلحه العظيم، إنه يرى فيهما آيتين واضحتين يمر العالم عليهما وهو عنهما معرض، فهم (لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم) الشعراء:201.
ولا يزال فكر جودت سعيد اللاعنفي يثير الجدل لدى كثير من النخب، الدينية منها خاصة، وهو في أغلب الأحيان ضحية ذات ما يسعى لنقضه، ولأنه يؤسس على التاريخ وما ينفع الناس، فإن ما ينادي به يظل جديدا إنسانيا، فهل تكفي عواقب العنف الحاضر بقوة في التاريخ للدخول مباشرة إلى اللاعنف؟ أم أن اللاعنف هو أيضا بحاجة إلى تجربة أخرى تدخله التاريخ؟ المهم أن الأستاذ مؤمن بأن علم الله في الإنسان وما جاء الأنبياء من أجله لم يتحقق بعد، ولذلك فإنه يترك باب الأمل مشرعا أمام هذا الكائن الذي وثق به ربه أمام ملائكته، وها هو جودت سعيد يهاجر إلى هذا الإنسان في مستقبله، فهل فعلا جني الورد من جوف الشجر؟
شاركه على جوجل بلس

عن Editor

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق