دراسات | ملامح إسلام الأنوار..بقلم هاشم صالح.





هاشم صالح
مفكر وكاتب ومترجم سوري متخصص
 في قضايا التجديد الديني ونقد الأصولية
ونقاش قضايا الحداثة وما بعدها. حاصل
على الدكتوراه في النقد الأدبي الحديث من
 جامعة السوربون 1982. وعلى دبلوم
 الدراسات العليا من جامعة دمشق 1975
. يكتب بأهم الصحف والمجلات الدولية،
 نقل هاشم صالح العديد من مؤلفات محمد
أركون إلى اللغة العربية. من بين مؤلفاته
 كتاب "مدخل إلى التنوير الأوروبي" وكتاب "
معضلة الأصولية الإسلامية" وكتاب
"الانسداد التاريخي ".
منذ بضع سنوات، أصبح التنوير الشغل الشاغل للمثقفين العرب. والسبب الأساسي هو أن الموجة الأصولية التي اكتسحت العالم العربي منذ رحيل جمال عبد الناصر عام 1970، أدت إلى ارتكاب أعمال وحماقات ومجازر عشوائية في الداخل والخارج على حد سواء. وهذا ما دفع بالمثقفين إلى محاولة إيجاد تأويل جديد ومستنير للعقيدة بغية وضع حد لهذا التطرف غير المقبول والمضاد لجوهر الإسلام أصلاً. لكن كان من الواضح أن الإسلام السياسي حل محل القومية العربية كأيديولوجيا كبرى تحتل الشارع. فالشارع لا يحتمل الفراغ. قانون فيزيائي، وكرد فعل على هذه المتغيرات المذهلة التي فاجأت البعض هبّ المثقفون التحديثيون للدفاع عن قيم التنوير والثقافة العقلانية في مواجهة قيم التجهيل والظلامية الفكرية. ولم يكن هدفهم محاربة الإسلام إطلاقاً، وإنما محاربة تفسير معين وخاطئ للإسلام. ولكن للأسف، فإن معظم الناس لا يفرقون بين الإسلام وأحد تفسيراته الشائعة في صفوف الجماهير، وهو تفسير انغلاقي يعود إلى عصر الانحطاط. ويمكن تلخيصه بعبارة واحدة: الإسلام السياسي أو المسيس جدا والمؤدلج. أما الإسلام الروحاني، الإسلام الأخلاقي، الإسلام الميتافيزيقي، الإسلام الفلسفي، الإسلام الحضاري، فلم يعد له أي وجود! بل وبلغت الجهالة مبلغها، عندما اعتقد الكثيرون بأن الإسلام الحنيف والموجة الأصولية الزاحفة هما شيء واحد! وهكذا شطبوا بجرة قلم على كل التيارات المستنيرة في تاريخ الإسلام: كتيار المعتزلة، والفلاسفة، والمتصوفة، وكبار الأدباء والشعراء والمبدعين وآخرين عديدين. هذا بالإضافة، إلى إسلام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وكل المبدعين العرب. كل هؤلاء أهملوا وكأنهم لم يوجدوا قط! ونسي الناس أن الدين حمال أوجه، وقد كان دائما عرضة لتأويلات شتى[1]. وبالتالي، فلا يوجد أي مبرر للقول بأن تأويل الإسلام السياسي للإسلام هو الإسلام! إنه أحد تأويلاته لا كل التأويلات. هذا الطغيان لموجة الإسلام السياسي على العالم العربي والإسلامي كله آن لها أن تنتهي. فهي ككل الموجات لها نقطة بداية ثم صعود نحو القمة ثم انحدار. وأعتقد شخصياً أنها قد أوشكت على الانحدار. إنها لم تعد في حالة صعود كما كان عليه الحال في سبعينيات القرن الماضي أو التسعينيات وإنما في حالة هبوط. والسبب هو أنها جربت نفسها ورأينا النتيجة بأم أعيننا، وهي سلبية جدا في معظمها. فبسبب هذه الحركات المتطرفة، أصبح الإسلام مكروهاً في شتى زوايا العالم الأربع، وأصبح كل عربي أو مسلم مشبوهاً، أينما حل وارتحل، وأصبحت كلمة إسلام تعني العنف والإرهاب. نقطة على السطر. كل ذلك كان من إنجازات الحركات الأصولية المباركة! ولكننا نعلم أن هناك تأويلاً آخر ممكنا للإسلام غير هذا، بل إن هذا التأويل قد وجد في العصر الذهبي قبل ألف عام تقريبا. فكيف حصل أن هيمن التأويل المتطرف الخاطئ على العالم الإسلامي ككل وليس فقط العربي؟ كيف حصل أن نسي العرب أنه وجدت في تاريخهم صفحات مضيئة غير هذه الصفحة السوداء المهيمنة عليهم حاليا؟

استراتيجية التنوير العربي

أولا: التنوير الداخلي

أعتقد أنه قد آن الأوان لكي يأخذ التنويريون العرب زمام المبادرة من أيدي الأصوليين المتزمتين؛ فالموجة الأصولية كما قلنا، أصبحت في حالة انحدار وهبوط لا صعود وزخم صاعد من الأعماق. هذا لا يعني أنها انتهت! أبداً لا. فلا يزال لها مخزون تراثي كبير في أوساط رجل الشارع وعامة الشعب. ولكنها ابتدأت تلهث وتظهر عليها علامات التعب. ابتدأت تفقد مصداقيتها. وهذا قانون تاريخي. فكل شيء له بداية ونهاية، ولا يمكن تجاوز أية موجة جماهيرية قبل المرور فيها والاكتواء بحر نارها. على أي حال لكي نواجه هذا الوضع على المستوى العربي والإسلامي كله، ينبغي أن نتبع استراتيجية التنوير الداخلي أولا ثم بعدئذ استراتيجية التنوير الخارجي. فلكي نخرج من هذا الوضع المتفاقم الذي وصلنا إليه ينبغي تذكير الشبيبة العربية في المغرب والمشرق بأن تراثهم ليس كله تكفيراً وتفجيرات عشوائية وعنفاً أعمى وحركات هوجاء معادية لكل تفكير عقلاني رصين. ينبغي تذكيرهم بالصفحات المضيئة من تاريخنا، بل وينبغي تذكيرهم بأن التنوير العربي الإسلامي سبق التنوير الأوروبي بقرون عديدة. وبالتالي فعندما نروج للتنوير حاليا، لا يعني ذلك إطلاقاً التبعية للغرب، وإنما يعني العودة إلى عصرنا الذهبي وماضينا التليد، بل وقد أخذه الغرب عنا لكي يبني نهضته وتنويره المقبل. وبهذا الصدد، ينبغي على معركة التنوير العربي أن تستخرج كل النصوص المضيئة في تراثنا، أن تنفض عنها الغبار، أن تطبعها طبعات جديدة، وأكاد أقول أن تترجمها إلى اللغة العربية الحديثة! وذلك لأن لغة التراث القديم قد تبدو صعبة على الفهم أو وعرة بالنسبة للقارئ المعاصر، ثم ينبغي بعدئذ تعميمها على المدارس والجامعات لكي يكتشف الطلاب العرب تراثهم ويعرفوا أنه ليس كله ظلاميات وحشويات وخرافات، كما تشيع الكتب التراثية الصفراء حالياً. إذا كانت نصوص الفقهاء المتشددين تسيطر على الجماعات الإسلامية، فينبغي أن ننشر نحن نصوص الكندي والفارابي وابن سينا وابن الطفيل وابن باجة وابن رشد والتوحيدي والمعري وعشرات غيرهم عن الدين. نضع هذا في مقابل ذاك، ثم نكتب لها مقدمات جديدة ونموضعها ضمن سياقها التاريخي لكي تفهم على حقيقتها[2]...وهكذا، تجري معركة حرب النصوص: أي نصوص أصولية/ مقابل نصوص تنويرية. وعندئذ لا تبقى الساحة حكراً على نصوص التقليديين والأصوليين التي تحتل الشوارع والمكتبات وتفترش حتى الأرصفة، ناهيك عن معارض الكتب على طول العالم العربي وعرضه. إنها معركة التفاسير والتآويل: تأويل للدين مقابل تأويل آخر، حجة مقابل حجة، برهان مقابل برهان. ينبغي التذكير بأن ابن عربي جزء من تراثنا، مثل ابن تيمية[3] لا أكثر ولا أقل. صحيح أن الثاني يكفر الأول، ولكننا نحن لا نكفره وإنما نعتز به. نفس الشيء يقال عن معركة الغزالي ضد الفلاسفة وتكفيره لهم وبالأخص ابن سينا والفارابي. ينبغي أن نشرح هذه المعركة الفكرية الضخمة لطلابنا لكي يعرفوا ماذا حصل بالضبط. لا ينبغي أن ندرسهم فقط كتاب "تهافت الفلاسفة" للغزالي، وإنما أيضا كتاب "تهافت التهافت" لابن رشد. وهكذا، يحكمون على المسألة من كل أبعادها، وهم على بينة من أمرهم. ولكن الشيء المسيطر على برامج التعليم هو التيار المتزمت لا المنفتح من التراث. وهذا الأمر لا ينبغي أن يستمر إلى الأبد. فعلى حد علمي، فإن ابن سينا هو جزء من تراثنا، مثل الإمام الغزالي الذي لا أنكر قيمته وعظمته. وبالتالي، فبأي حق أشطب عليه وأبقي على الثاني فقط. يوجد هنا اختلال توازن في برامج التعليم العربية، وهو أحد أسباب انتشار الفكر الأصولي وهيمنته على الساحة. فنحن لا نهتم في مدارسنا الابتدائية والثانوية إلا بالأصوليين المعادين للعلم والفلسفة. وهذا خطأ. هذا بتر للتراث العربي الإسلامي الكبير. ينبغي العلم بأن تراثنا تراثان: التيار المنفتح والتيار المنغلق. ولكن الشيء الذي ساد بعد الدخول في عصر الانحطاط هو التيار المنغلق لا المنفتح. نعم، لقد هيمن وسيطر بعد تكفير المعتزلة والفلاسفة وكبار الأدباء والشعراء كأبي حيان التوحيدي والمعري على سبيل المثال لا الحصر. كل هذا التيار العقلاني والإنساني المستنير من تراثنا، ينبغي أن نبعثه من مرقده ونسلط عليه الأضواء ونعرّف الجماهير العربية المتعلمة به، بل ويمكن أن نفاخر به الأمم.

نفس الشيء يقال عن النهضة العربية التي تشكل العصر التنويري الثاني في تاريخنا بعد العصر الذهبي. هنا أيضا، ينبغي أن نعيد نبش نصوصها وطبعها طبعات جديدة فاخرة إذا أمكن، وتعميمها على برامج التعليم العربية. فالعصر الليبرالي العربي الذي امتد منذ أوائل القرن التاسع عشر وحتى منتصف العشرين؛ أي على مدار مائة وخمسين سنة، ينبغي أن يعاد اكتشافه من جديد. هذا أيضا يشكل ورقة مهمة في معركة التنوير العربي ضد تيارات التطرف والأصولية الانغلاقية. ينبغي أن نبعث من مرقدها نصوص رفاعة رافع الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وبطرس البستاني، وإبراهيم اليازجي، والطاهر حداد، ويعقوب صروف، وشبلي شميل، وأحمد أمين، وقاسم أمين، وعباس محمود العقاد، وطه حسين، وأحمد حسن الزيات، ومحمد حسين هيكل، وأحمد لطفي السيد، وميخائيل نعيمة، وجبران خليل جبران، ونجيب محفوظ، وغسان التويني وكل النهضويين العرب. هذا ناهيك عن النهضويين السوريين الذين نسيتهم كليا! كل هؤلاء ينبغي أن نعيد الاهتمام بنصوصهم مجدداً لكي نواجه الموجة الأصولية الكاسحة.

ثانيا: التنوير الخارجي

قد لا يكفي التنوير الداخلي في إخراجنا من المغطس الذي وقعنا فيه. ولذا لا بد من الاستعانة بالتنوير الخارجي. وأقصد به أساساً التنوير الذي حصل في أوروبا بدءا من القرن الثامن عشر، بل وحتى السادس عشر إبان عصر النهضة. ولكن اتفق المؤرخون على أنه عندما تذكر كلمة تنوير، فإن الإجماع حصل على القرن الثامن عشر: أي قرن فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو وكانط وفيخته والموسوعيين وغيرهم من الأفذاذ. وهذا التنوير كان متصالحاً إلى حد ما مع الدين في الحالة الألمانية ومتصارعاً معه في الحالة الفرنسية. والسبب هو أن التنوير الفرنسي حصل في بلاد كاثوليكية بابوية. ومعلوم أن هذا المذهب البابوي الفاتيكاني كان من ألد أعداء الحداثة، ولم يتصالح معها إلا مؤخراً عام 1965.فقد قاومها بعنف طيلة قرون عديدة قبل أن يستسلم لها إبان المجمع الكنسي التحريري المدعو بالفاتيكان الثاني. وذلك على عكس التنوير الألماني الذي حصل في بلاد بروتستانتية أساسا: أي في بلاد الإصلاح الديني الذي لم يحارب الحداثة كما فعل المذهب الكاثوليكي الفاتيكاني. لقد انهمكت شخصياً في نقل نظريات التنوير الأوروبي إلى العربية منذ حوالي الثلاثين سنة: أي قبل أن تنفجر الأحداث الأخيرة والصراعات المذهبية والطائفية. لقد استبقت عليها، لأني كنت أعرف أنها قادمة لا محالة. ومهما حاولنا فلن نستطيع تحاشيها. والواقع أن هناك تشابهاً بين أوضاع البلدان الأوروبية في القرن الثامن عشر وأوضاعنا نحن اليوم. حذار أن نقارن أنفسنا بهم الآن! فلا مجال للمقارنة، يمكن أن نقارن فرنسا بألمانيا، أو انكلترا بهولندا، ولكن لا يمكن أن نقارن مصر بفرنسا أو سوريا بسويسرا! ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار ما يدعى بالتفاوت التاريخي، وهو يصل إلى حد المائتي سنة وربما أكثر فيما يخص المسألة الدينية. كما ينبغي التفريق بين المعاصرة الزمنية/والمعاصرة الإبيستمولوجية.

على أي حال، عندما اطلعت على أحوال أوروبا في القرن الثامن عشر، وجدت أنها مشابهة لأوضاعنا نحن اليوم من جهات عديدة؛ فالتدين الأصولي كان مسيطراً عليهم مثلما هو مسيطر علينا اليوم. وهيمنة رجال الدين عليهم آنذاك كانت طاغية. أقصد لم تكن تقل سطوة عن هيمنتهم علينا نحن اليوم. انظر الفضائيات وكيف يصولون فيها ويجولون...وتكفير الفلسفة والفلاسفة كان شائعاً عندهم، مثلما هو شائع عندنا اليوم. ثم بشكل أخص، فإن الحروب الطائفية كانت تمزقهم مثلما تمزقنا اليوم. وأصلاً، لولا ذلك لما ظهر التنوير الأوروبي كحركة فكرية ضخمة. الحاجة أم الاختراع كما يقال. وبالتالي، فالتنوير لم يكن عبارة عن لعبة أو تسلية أو ترفاً فكرياً، وإنما كان تلبية لحاجة تاريخية ماسة. فالحروب الطائفية التي اندلعت بين المذاهب المسيحية وبالأخص بين المذهبين الكاثوليكي والبروتستانتي أقضت مضجعهم واكتسحت بلدانهم ودمرت أوطانهم. ينبغي العلم بأن ثلث سكان ألمانيا ذهبوا ضحية حرب الثلاثين عاما (1618-1648)[4]، وهي الحرب المذهبية الطاحنة التي اجتاحت أوروبا آنذاك. هذا دون أن نتحدث عن الخسائر الجسيمة للبلدان الأخرى، ودون أن نذكر الخسائر في الأرزاق والممتلكات. وأما الحرب الطائفية الفرنسية، فقد أدت إلى ترحيل ما لا يقل عن ثلاثمائة ألف بروتساتنتي عن البلاد. وقد هاموا على وجوههم في شتى أقاصي الأرض بحثاً عن ملاذ أو ملجأ. وهكذا حصل التطهير الطائفي قبل عصرنا الحالي بزمن طويل؛ فالمناطق الكاثوليكية كانت تريد أن تصبح محررة ومطهرة من "الزنادقة" البروتستانتيين. والعكس صحيح أيضا، واستخدم رجال الدين سلاح التكفير الفعال والفتاك على أوسع نطاق. فلكي أقتلك بشكل شرعي حلالا طيبا، يستحسن أن أحرمك من نعمة الله أولا: أي أن أصدر فتوى بتكفيرك وزندقتك. وهكذا يسهل عليّ استئصالك وأتقرب بذلك إلى الله تعالى. على هذا النحو، حصلت المجازر الطائفية بين الطرفين الكاثوليكي والبروتستانتي. ولهذا السبب بالذات، ظهر فلاسفة الأنوار كرد فعل على تجاوزات الكهنة وتعصبهم وتفسيرهم الظلامي الخاطئ للدين، واشتبكت المعركة بين الطرفين طيلة قرنين أو ثلاثة حتى حسمها الفلاسفة لصالحهم، وقضي على الأصولية المسيحية قضاء مبرما في كل أنحاء القارة الأوروبية المتحضرة. أقترح بهذا الصدد ترجمة نصوص مختارة من فولتير وروسو وليسنغ وكانط وهيغل وفيخته وارنست رينان وعشرات غيرهم لكي يعرف القارئ العربي كيف حصلت المعركة التنويرية في البلدان المتقدمة، وكيف تخلصوا من شرور التعصب والحروب الطائفية وشكلوا وحدة وطنية راسخة متراصة.[5]

القرآن الكريم كأول نص تنويري في تاريخنا

قلنا سابقاً، إن التنوير والتسامح موجودان في تراثنا الخاص بالذات، ولسنا بحاجة إلى استيراده من الآخرين. ولكننا لا نعرف أن نقرأ التراث جيدا أو بعيون جديدة. ولا نعرف كيف نميز بين صفحاته المضيئة المشرقة/ وصفحاته الأخرى الأقل إضاءة وإشراقا. هذا لا يعني بالطبع، أن الاستفادة من تجربة الآخرين ممنوعة! فقد انتهيت للتو من الترويج لها ولفكر التنوير الأوروبي. ولا أريد التراجع عما قلته وانخرطت فيه منذ ثلاثين سنة على الأقل. ولكنه يعني أن التنوير ليس حكراً على شعب دون آخر، أو ثقافة دون أخرى. فثقافتنا العربية الإسلامية كانت تنويرية إبان العصر الذهبي، ثم أصبحت ظلامية جامدة طيلة عصر الانحطاط. هذا كل ما في الأمر لا أكثر ولا أقل. وبهذا الصدد، ينبغي العلم بأن النص الأول والأعظم في تراثنا؛ أي القرآن الكريم، هو نص تنويري متسامح بامتياز إذا ما عرفنا كيف نقرؤه ونفهمه على حقيقته. فهناك آيات بينات تدعو إلى الانفتاح والتعددية الدينية والاعتراف الشرعي بعقائد الآخرين. ولكن الفقهاء المتأخرين أهملوها ولم يركزوا إلا على آيات القتال والأفكار المتشددة والانغلاقية التعصبية. وبالتالي، فالحق ليس على القرآن الكريم كما يتوهم بعض الجهلة الحاقدين في الغرب، وإنما على المفسرين اللاحقين وبالأخص مفسري عصور الانحطاط والانغلاق والاجترار. نضرب على ذلك مثلا الآيات التالية:

"ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" (يونس، 99)

"ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين" (هود، 118)

"ولو شاء ربك لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون" (المائدة، 48)

ثم هذه الآية التي يجدها القارئ مكتوبة على واجهة مسجد كريتيه بباريس. إنها منقوشة على الحجر بشكل ناصع وبارز، وهو المسجد الذي بني مؤخرا على شواطئ بحيرة كريتيه في إحدى أجمل الضواحي الباريسية:

"يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم ان الله عليم خبير" (الحجرات، 13)

هذا هو القرآن الكريم: إنه كتاب كوني موجه للبشرية جمعاء. إنه يعترف بالتعددية الدينية اعترافاً واضحا لا لبس فيه ولا غموض؛ فهناك عدة طرق إلى الله لا طريقا واحداً، بل إنه يعتبرها مشروعة من قبل الله ذاته. فلو أراد الله أن يجمع البشر كلهم على دين واحد لفعل. هل هو عاجز عن ذلك يا ترى؟ معاذ الله! إنه قادر على كل شيء. ولكنه أراد التنوع والتعددية في صفوف البشر لحكمة تتجاوز أفهامنا. والإنسان مرضيّ عنه من قبل الله تعالى أيا يكن دينه أو عقيدته بشرط أن تصدق النوايا وتصلح الأعمال. هذه الآية الكريمة تساعدنا على التعايش السلمي والودي مع الشعوب الأخرى في عصر العولمة الكونية، وهي عولمة تجبرنا على الاختلاط بأتباع الأديان الأخرى اجباراً وبشكل يومي أحياناً. وبالتالي، فلا نستطيع أن نتعامل معهم بشكل طبيعي ونحن نعتقد في قرارة أنفسنا بأنهم كفار. هذه الآية الكريمة تخلع المشروعية الإلهية على معتقدات كل الأقوام والقبائل البشرية؛ فجميعنا من مخلوقات الله وعباد الله. وقد حقت علينا الرحمة والمغفرة إذا كنا صالحين.

ولكن الآية القرآنية الكريمة التي تسمي الأشياء بأسمائها وتذكر كل الأديان والعقائد المعترف بها، فهي التالية:

"إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (البقرة، 62)

إنها آية حاسمة حقا؛ فهي تدحض أقوال متعصبي الغرب الذين يتهمون الإسلام بالتطرف وكره الآخرين، بل وتكفيرهم والدعوة إلى استئصالهم. هذا الاتهام ظالم لجمهور المسلمين أو أغلبيتهم. إنه لا ينطبق إلا على الأصوليين المتطرفين الذين يخالفون القرآن الكريم، إذ يدعون إلى تكفير كل من ليس مسلما. نعم، إن هذه الآية الكريمة تقف لهم بالمرصاد. إنهم لا يدركون أو لا يستوعبون مدى تسامح القرآن الكريم. إنهم لا يستطيعون الارتفاع إلى مقاصده العليا ومعانيه السامية. ولكن المشكلة أعمق من ذلك؛ فهي تعود إلى الماضي البعيد كما يقول لنا العالم الباكستاني الشهير فضل الرحمن. ففي كتابه الصادر عن جامعة شيكاغو عام 1980 بعنوان "المواضيع العظمى في القرآن"[6] يقول لنا ما معناه: إن الفقهاء والمفسرين التقليديين رفضوا الاعتراف بالمعنى الظاهري للآية. بمعنى آخر لقد رفضوا الاعتراف بالأديان الأخرى المذكورة في الآية الكريمة. لقد أحرجتهم. ولذلك فعلوا المستحيل للاحتيال عليهاوتغيير معناها الواضح وضوح الشمس. لقد صعب عليهم أن يعترفوا بأن أتباع الأديان الأخرى يمكن أن ينالوا مرضاة الله إذا كانوا صالحي الأعمال. ففي رأيهم أن المسلم هو وحده الذي سينجو بروحه في الآخرة وبقية الناس في النار أيا تكن أعمالهم ونواياهم. وقد سألت مرة أحد المسلمين الملتزمين: هل المسلم الشرير أفضل من المسيحي الطيب؟ فتردد قليلا قبل أن يجيبني بنعم! أقول ذلك على الرغم من أنه أدان المسلم الشرير، ولكن تشفع له العقيدة في نهاية المطاف. والسبب هو أن صاحبنا كسواه نتاج التربية القديمة التي تهيمن عليها فتاوى الشيوخ التقليديين المنغلقين كليا على العلم الحديث. وللأسف، فهي تربية شائعة جدا في مجتمعاتنا وبيئاتنا ومدارسنا. ولذلك، فأول شيء ينبغي تغييره هو برامج التعليم المحنطة والمتكلسة منذ عدة قرون. ينبغي تجديدها لكي تنشأ عندنا أجيال جديدة مستنيرة العقول. فالانسان يحاسب على أفعاله لا على أقواله. وإذا كانت أفعاله سيئة أو شريرة ضارة بالمجتمع والآخرين فلن تنجيه ألف ركعة يوم الحساب... هكذا نلاحظ أن التعصب ناتج عن تفاسير الفقهاء المتأخرين لا عن القرآن الكريم ذاته. ولهذا السبب، فإن بعضهم يدعو إلى إسلام قرآني منفتح، متسامح، عقلاني. ينبغي أن نعود إلى لحظة القرآن ذاته فيما وراء التراث الفقهي المتراكم على مدار العصور. هذا لا يعني أن كل ما قاله الفقهاء خطأ! ينبغي ألا نسقط في التطرف المعاكس. ولكن كل ما لا ينسجم مع روح القرآن ومقاصده العميقة من أقوالهم ينبغي أن يرفض أو يهمل. فهو بشري أولا ثم إنه مرتبط بعصره، وقد لا يتناسب مع عصرنا وحاجياته المختلفة.

[1]- يتفق جل المفكرين العالميين على القول بأن تراثنا الديني يحتمل قراءتين مختلفتين: الأولى منفتحة على الآخر ومتسامحة وكونية، والثانية انغلاقية تجاه الآخر، بل وعنيفة اللهجة وتكفيرية، وهي التي تتبناها حركة الإخوان المسلمين والسلفيين والخمينيين. وبالتالي، فلماذا تكون قراءة الإسلام السياسي هي وحدها الشرعية أو المشروعة؟ القراءة الثانية لها ذات الشرعية ان لم يكن أكثر. فالنصوص القرآنية والتراثية ذات الأبعاد الكونية أكثر من أن تعد أو تحصى. فبأي حق نهملها وننسى وجودها؟ بأي حق تطغى عليها النصوص الانغلاقية التكفيرية؟

لقد اطلعت مؤخرا في مدينة "رانس" الفرنسية على كتاب موضوعي عن هذه القضايا، وهو يبدد الكثير من الكليشيهات السوداء السائدة عنا في الغرب، والتي تقول بأن القرآن كله كتاب عنف، وأن الإسلام لا يعرف الشفقة ولا الرحمة، إلخ... وهي تصورات خاطئة شاعت عنا بسبب الأعمال التفجيرية للحركات المتطرفة، وكذلك بسبب الفيديوهات الدموية التي تنشرها على الإنترنت، والتي ترعب العالم وتصدم حساسية الشعوب المتحضرة. ساهم في تأليف هذا الكتاب كل من بول بالطا، وميشيل كوبيرس، وجنفييف غوبييو. فالأول، أي بول بالطا، مختص بشؤون العالم العربي الإسلامي ومدير شرف لمركز دراسات الشرق المعاصر في السوربون. وأما ميشيل كوبيرس، فهو عضو المعهد الدومنيكاني للدراسات الشرقية، وهو مختص أساسا في الدراسات اللغوية والأدبية للقرآن الكريم. وأما الباحثة الثالثة، فهي جنفييف غوبييو، وهي حائزة على شهادة دكتوراه الدولة وأستاذة الحضارة العربية الإسلامية في الجامعات الفرنسية.

عنوان الكتاب هو التالي: الإسلام والقرآن، الأفكار الشائعة عن تاريخ مليار ونصف المليار مسلم وعن نصوصهم المقدسة وممارساتهم، منشورات باريس، 2011

Paul Balta, Michel cuypers, Genvieve Gobillot: Islam et Coran. Idees recues sur l’histoire, les textes et les pratiques d’un milliard et demi de musulmans. Le Cavalier Bleu. Paris. 2011

ميزة هذا الكتاب هي أنه تبسيطي سهل وعميق في ذات الوقت. إنه يشرح لك الكليشيهات السوداء السائدة عنا في الغرب ثم يضع في مواجهتها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لتكذيبها في معظم الأحيان أو لتصديقها جزئيا أحيانا. وهكذا يتسنى لكل قارئ أن يفهم الفرق بين الشائعات المغرضة المشوهة السائدة عن القرآن والإسلام من جهة، وبين حقيقة الأمور من جهة أخرى. يتميز الكتاب بطابع تربوي بيداغوجي لا ينكر.

[2]- إنه لمؤسف القول إن من يقوم بهذا العمل الجليل هم الباحثون الأجانب وليس نحن. أود الإشادة هنا بمؤلفات المفكر الفرنسي الكبير آلان دو ليبيرا عن فلاسفة العرب والإسلام وبخاصة ابن رشد. انظر كتابه: الإسلام والعقل، مسبوق بمقدمة طويلة بعنوان: من أجل ابن رشد، منشورات فلاماريون، باريس، 2000

Alain de Libera: L’Islam et la raison. Pour Averroes. Flammarion. Paris. 2000

[3]- ينبغي العلم بأن ابن تيمية من كبار مفكري الإسلام ولا أستهين به على الإطلاق، بل إني أستمتع بقراءته أحياناً كل الاستمتاع على الرغم من فارق التوجه. فقد كان عالماً كبيراً ومطلعا على مختلف جوانب المعرفة العلمية والفلسفية في عصره وليس فقط الدينية. ويا ليت أن شيوخنا المعاصرين يقلدونه من هذه الناحية. إنه يمثل "عبقرية الأصولية" إذا جاز التعبير تماما، مثل بوسّويه في الحالة الكاثوليكية الفرنسية. كما أنه يمثل الجانب الشعبوي الضخم من التراث العربي الإسلامي الكبير. ولكن من الواضح أني أفضل عليه الجانب الآخر: أي جانب ابن عربي أو الفارابي أو ابن سينا، إلخ...لماذا؟ لأنه يمثل عبقرية الانغلاق، وهم يمثلون عبقرية الانفتاح. إنه ينحصر بالخصوصية، في حين أنهم هم يعانقون الكونية. ولذلك لا أستطيع أن أستشهد به في المحافل العالمية أو المؤتمرات الدولية على عكس ابن عربي أو المعري مثلا..

[4]- المراجع عن حرب الثلاثين عاماً خصوصا وعن الحروب المذهبية المسيحية عموما عديدة جدا بالفرنسية، ناهيك عن الإنكليزية وبقية اللغات الأوروبية.

بصراحة، كنت أتمنى لو ترجمنا بعضها لكي نتعظ بتجربتهم، فلا نذبح بعضنا بعضا كما فعلوا هم في العصور الغابرة.

أحيل هنا إلى المراجع الفرنسية التالية: حرب الثلاثين عاما، تأليف الباحث هنري بودغان، منشورات مكتبة بيران الأكاديمية، باريس، 2006

Henry Bodgan: La Guerre de Trente Ans.Librairie Academique Perrin.Paris. 2006

وانظر أيضا كتاب الباحث نيكولا لو رو بعنوان: الحروب الدينية بين المذاهب المسيحية، منشورات بيلان. باريس، 2009

Nicolas Le Roux: Les guerres de Religion 1559-1629. Belin. Paris. 2009

ولكن المختص الأكبر في فرنسا حاليا بهذه المسألة هو بدون شك البروفيسور دني كروزيه، أستاذ علم التاريخ الحديث في جامعة السوربون. نذكر من بين كتبه: مقاتلو الله: العنف الأعمى في زمن الاضطرابات الدينية، 1525-1610

Denis Crouzet: Les guerriers de Dieu: La violence au temps des troubles de religion. 1525-1610. Editions Champ Vallon.Paris. 2005

وانظر أيضا كتابه الآخر: الله وممالكه: قصة الحروب الدينية بين المذاهب المسيحية، منشورات شامب فالون، 2008

Denis Crouzet: Dieu et ses royaumes: Une histoire des guerres de religion. Editions Champ Vallon. Paris. 2008

[5]- أضيف إليها بطبيعة الحال مؤلفات الفلاسفة الأوروبيين المعاصرين كبول ريكور مثلا، وهو فيلسوف مؤمن لا ملحد، من هنا أهميته المزدوجة. فهو يثبت لك أن الإيمان لن يموت بعد التنوير كما يخشى البعض وبحق، وإنما سينتعش وينطلق من جديد، بل وسيصبح أنقى وأنضج وأوسع وأعمق بكثير. ينبغي أن أذكر أيضا مؤلفات المثقفين العرب أو المسلمين المقيمين في الخارج الأوروبي أو الأميركي، حيث يمتلكون هامش حرية أوسع فيما يخص الخوض في الشؤون الدينية وتفكيك الانغلاقات والتعصبات..

[6]- لا أعرف فيما اذا كانت مؤلفات هذا المفكر الباكستاني الكبير قد ترجمت إلى العربية. ولكنها حتما تستحق الاهتمام والتقدير. أما كتابه المشار إليه هنا، فقد صدر بالإنكليزية عن جامعة شيكاغو بطبعة ثانية منقحة تحت العنوان التالي:

Fazlur Rahman: Major Themes of the Qur’an.University of Chicago Press.2009


وانظر أيضا كتابه الآخر: الإسلام والحداثة، منشورات جامعة شيكاغو، 1984


مؤمنون بلا حدود
شاركه على جوجل بلس

عن Editor

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق