مقالات |في خصائص الدين الدنيوي الجديد: العلمانية مع Thomas Luckmann بقلم عبد الجليل أميم.



بقلم: عبد الجليل أميم.

أولاً: في الخصائص

1.خاصية التفريع

من أهم مميزات المجتمعات العلمانية المعاصرة خاصية التفريع الذي يعيشه المجال المؤسساتي داخل البناء الاجتماعي العام، كذلك التفريع الذي تعرفه ضوابط الفعل والعمل داخل هذه المؤسسات، سواء تعلق الأمر بالسياسة أم بالاقتصاد.

إن خاصية التفريع أو التجزيء تعد في حد ذاتها بعدًا من أبعاد العقلانية التي تغزو كل مكونات الوجود في حياة الإنسان المعاصر، بل إن من أشكال العقلانية المعاصرة نزوع المصالح داخل المؤسسات إلى نوع من الاستقلالية في التسيير والتدبير وتطوير الذات، فتقلصت بذلك السلطة المركزية، وهذا ليس معطىً مفروضًا من أعلى، بل عده نتيجة حتمية لتطوير البنيات الاجتماعية، وتنوع الإشكالات التي تعرض على المؤسسات والمصالح الفرعية التابعة لها، وكذلك بسبب نزوع الإنسان المعاصر إلى الاستقلالية وتطوير المؤسسات بالاعتماد على مؤهلاته الذاتية، متجاوزًا حالة الانتظار التي وسمت الإنسان التقليدي في بعده التصوري والعملي.

لقد نتج عن هذا النزوع نحو الاستقلالية تطور لامس الوعي الذاتي للمؤسسات والأفراد بخاصية براكماتية أساسية هي النسبية، إذ تطور وعي الإنسان بنسبية الاجتهادات الإنسانية، ونسبية الضوابط التي نسلم بها، ونسبية النتائج التي نتوصل إليها، وكذا نسبية الرؤى التي توجه بوصلة فكرنا وفعلنا.

إن هذا الوعي يحيل على تطور واضح ونوعي، وكذا على فهم دقيق لواقع التداخل المؤسساتي والفردي في كل المجالات، إضافة إلى فهم نوعي لحقيقة التركيب والتعقيد الذي يسم حياة الأفراد والمجتمعات المعاصرة. لذا، أصبح من اللازم على الإنسان المعاصر أن يعالج التعقيد بالتفكيك ومزيد من الاستقلالية بغية الفهم والتطوير والتجاوز. هذا في المجتمعات العصرية المتقدمة. أما في المجتمعات التقليدية، فإننا نجد العكس تمامًا؛ فغالبًا، ونظرًا لغياب التربية على التفكير وكذلك لغياب الوعي بالتعقيد، تتسم القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالتضييق ومحاولة التجميع لتسهيل التحكم، رغم كون التعقيد خاصية الراهن الإنساني.

1.خاصية الوهم:

يعد الوهم سهوا أو ربما هو أعلى درجات السهو، وقد يكون من جهة الفاعل السياسي مقصودًا، كما قد يكون غفلة. وعندما يكون على الشاكلة الأولى، يكون من جهة تصورًا خاطئًا، ومن جهة أخرى متجاوزًا للحد في التعامل مع تبعات خطئه. وعندما يأخذ المسحة الثانية، يكون تخلفًا وقلة فطنة وضعف ذكاء، لأن الفاعل السياسي عليه ألّا يَغفَل عن فرع، بله أصل من أصول الفعل في الناس.

ويعد الوهم حسبThomas Luckmann صفة ملازمة لعقيدة العلمانية، أسميها عقيدة Weltanschauung ، ذلك أن استقلالية الذوات تناقض في أساسها النظر الموضوعي للاستقلالية مبدأً متعلقًا بتفاعلات سياق إنزالها؛ ففي أساطير الفردانية المعاصرة يتم نفي وإنكار السياقات وتفاعلاتها، أو على الأقل إغفالها؛ فعقيدة المعاصَرَة العلمانية تسهم في استمرار سير النسق الاجتماعي بدون استيعاب لواقعه، خاصة عندما ترفع إشباع أهواء ورغبات الأفراد إلى درجة التصور الوجودي الديني. ومن هذه الزاوية يمكن أن توسم الحداثة المعاصرة بكونها ذات طابع إيديولوجي، رغم عدم تحيز إيديولوجيتها في مؤسسة بعينها، وهي بذلك قد تقترب، إن لم نقل إنها "دين" أكثر منها "إيديولوجبة"، لتجدرها في مكونات المجتمع، كما يمكن أن نقول بأنها إيديولوجية أكثر منها دين، عندما تركز على الدنيوي وإشباع رغبات الأفراد.

2.خاصية الدنيوية المتطرفة

سعت العلمانية إلى إلباس المصطلحات والمفاهيم والتعابير الدينية المقدسة لباسًا دنيويًا وسمه Thomas Luckmann بالتطرف، إذ إنها لم تتوقف عند ما هو اقتصادي أو سياسي، بل تجاوزت ذلك إلى ما هو اجتماعي، وبالأساس ما هو مرتبط بالمقدس كالأسرة والجماعة. فلا نتحدث عن الأسرة بأبعادها الإنسانية الدينية، بقدر ما أصبحنا نتحدث عن مؤسسة بمعناها الدنيوي، والخاضعة للحسابات الاقتصادية من ربح وخسارة وما إلى ذلك، فاختفت مسحة التقديس. وهذا كله من تجليات مبدإ الفردانية الذي تعتمده الفلسفة الغربية أساسًا، لتوجيه فعل تطبيق مبدإ تنظيف العالم من الأساطير على رأي ماكس فيبر. ومن الغرائب الأساسية التي لا يُلتفت إليها، موضوع الموت الذي يفرض نفسه ويهدد كل واحد؛ فهو حقيقة نظرية ويقين علمي لا يرقى إليه الشك، ورغم ذلك يتم صرف النظر عنه لا إليه. لقد عملت العلمانية بخلفيتها الحداثية الدنيوية على إغفاله، بل وتهميشه إن لم نقل إلغاءه، إن العقيدة الدنيوية طمست كل ما يزاحمها من المقدس ساعية بذلك لتجاوزه، وهي في ذلك لا تعدو أن تخلق مقدسًا جديدًا، تعمل على تمجيده والإتيان بطقوسه.

3.العقيدة الفردانية

تجتمع في العقيدة المعاصرة المواضيع الدينية والإيديولوجية والتقليدية، وكذلك التي نشأت حديثًا، تجتمع من أجل هدف أساسي هو التحرير والانعتاق الداخلي للأفراد.

إن تعدد المواضيع، وكذا تبعثر البنيات الداخلية للسياقات الدينية، وما جد من المواضيع يسعى أساسًا إلى توجيه الفرد المعاصر إلى الاستهلاك، وما دامت التوجهات الاستهلاكية ذات طبيعة متغيرة وغير ثابتة، فإن ذلك معناه أنه لا ثبات في البناء الداخلي للفرد، لذلك فالعقائد أو لنقل العقيدة لدى أفراد المجتمعات المعاصرة هي ذات طابع فردي، وتتعدد بتعدد هؤلاء الأفراد.

4.الخصخصة المتطرفة

إن مصادر المعنى في العقيدة المعاصرة لا تنبني على وحدة متكاملة ومتجانسة من البنيات التي تشكل رؤيا دينية معينة، كما أن الفرد نفسه لا يعد جزءًا من كلٍّ؛ فالبناء الديني والعقدي يتم تطويره فرديًا بالتعامل مع مختلف السياقات والمفاهيم والأفكار والتجارب والقيم التي تصادف الفرد في حياته، لذلك نجد في إنسان العقيدة المعاصرة من بقي متذبذبًا وتائهًا حتى الممات، ومن اعتنق ما لا يمكن أن يعتنق منطقيًا، ومن تمسح ومن أسلم ومن أبدع دينًا أو معتقدًا جديدًا، بل من اكتشف بعد طول إلحاد أنه هو الإله؛ ففي عقيدة الحداثة وبنتها العلمانية كل واحد له وجهة هو موليها.

إن العلم المعاصر طرد الإله ورفع القيود، ترك مكانًا خطيرًا فارغًا، إنه مكان القاضي الأعظم، الإله الأكبر، المشرف العام المسير للكون. هذا العرش الذي تركه العلم فارغًا، لا يمكن للأبد أن يبقى كذلك، عرش الإله الذي تُرك فارغًا له قوة تأثيرية كبيرة علينا، ولهذا وعلى رأي Peter Soss،سيجعل كل واحد منا نفسه الإله، أو سيكتشف أنه هو إله نفسه، وليس هناك إله غيره ليحتل العرش ويجلس مكان الإله.

ثانيًا: في الاشتغال بالخصائص/ التفريع العقائدي والمجتمعات الإسلامية نموذجًا

بالاشتغال على مقولات Thomas Luckman، يمكن الحديث في المجتمعات المتخلفة، ومنها المجتمعات الإسلامية وخصوصًا العربية منها عن حضور وغياب خصائص المجتمعات العلمانية. فالمجتمع المغربي لم يصل بعد إلى درجة عالية من التجزيء الناتج عن تفرع المؤسسات الرمزية أو تقدم المجتمع العلمي، أو تفرع متعلق بنزوع الفرد إلى الحرية، بل إن البنيات الفكرية والاجتماعية والسياسية تسعى- وهي مجزأة نتيجة أسباب أخرى- تسعى إلى التجميع بدل التجزيء، وإلى الوحدة بدل التنوع. أكيد أن هذا الأمر له أصوله في البنية العقائدية، وكذا في الخلفيات الإديولوجية المهيمنة في هذه المجتمعات، سواء على صعيد الدولة أو على صعيد الأحزاب، أو عمومًا على مستوى الثقافة الموجهة للنظر والعمل؛ فالكل يسعى إلى الوحدة، وهذا بالضبط ما أود مناقشته في هذه النقطة؛ أي التساؤل من داخل البنية الإسلامية: هل الإسلام يسعى إلى الوحدة أصلاً؟

إن الوحدة التي يسعى المسلمون إلى تحقيقها تحولت إلى سعي للتوحد؛ أي إلى نوع من الانقطاع عن العالم، والانغلاق على الذات، والاعتقاد بالتفرد والخيرية مع العلم أن الخيرية في الدين تستوجب الإيمان بالله والاختلاط بالناس والإصلاح. التوحد معناه انفصام عن العالم الخارجي، وقد نسميه كذلك نزوعًا نحو الواحدية، والواحدي هو المفارق للناس المتفرد بنفسه، وهو هدف لا يمكن تحقيقه سواء داخل المجتمعات أو بين الشعوب إلا باللجوء إلى وسائل العنف المختلفة لصهر المختلف في بوتقة التوحد. هذا التوحد لا علاقة له بالتيارات الإسلامية فحسب، بل هو ثابت أساسي في فكر وفعل أهل الدوغما أيًا كان أصلها، سواء ديني أو فلسفي أو غيره. إن ال

مجتمعات الساعية للتوحد تعيش حالة من الوهم وتعمل على التأصيل له والعمل من أجل تحقيقه، وهنا بالضبط تقع الكوارث الإقصائية الشنيعة في مجال السياسة، لأنها مجال العمل والفعل في الآخر. الأمثلة على هذا المسعى الدنيء كثيرة من بداية التاريخ إلى الآن. ولنا في ما نعيشه الآن في العالم العربي الأمازيغي ألف دليل ودليل. كل فكرة تتحول عندنا بسرعة إلى دوغما: العلمانية، والحرية، والاستقلالية، والدين، والاشتراكية،...إلخ، وبمجرد ما نؤمن بفكرة تتحول عندنا إلى عقيدة بها نحب، وبها نكره، وبها نسوس الناس، لها نعمل، ومن أجلها نموت، ومستعدون باسم الفكر الديني وفي سبيله أن نستشهد، وجاهزون باسم الفكر الحر أن نقاتل ونستشهد، كل فرقة منا تضفي على معتنقيها خاصية المناضلين في حياتهم، و خاصية الشهادة بعد وفاتهم. نناضل ضدنا ونقتل بعضنا ونموت أو ننتحر من أجل خرافة صنعها غيرنا ولم نُعمل عقلنا للإجابة عن سؤال: ماذا عنا؟ كيف نتعايش كما يتعايش غيرنا؟

إنني أعتقد أن الله عز وجل خص نفسه بالواحد والوحدانية، لكنه عز وجل عندما يتحدث عن العلاقات بين الناس، سواء تعلق الأمر بالمسلمين في ما بينهم، أو في علاقتهم بغيرهم، فإنما يستعمل مصطلحات لها دلالة تحيل إلى مسلمات أنثربولوجية مركزية أساسية كالتآلف والاختلاف والتعارف، وفي ذلك دلالة واضحة على أن مسعى الوحدة ليس غاية في ذاته. لاحظوا معي قوله عز و جل: ﴿ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ [ الأنفال 63 ]. والألفة هي تجميع بعد تفريق؛ أي بعد اختلاف، وهذا فيه اعتراف ضمني بأن الأصل هو أن نختلف، ولكن فيه كذلك إشارة واضحة إلى أن الألفة تستدعي التمكن من أدوات إدارة الاختلاف، كما فيه إشارة ثانية واضحة إلى أن حل المنازعات لا يرجع بالمطلق إلى الإغراءات المادية، بل يتجاوز ذلك إلى التمكن من تملك قلوب الناس بحبهم، وحب مصالحهم، والسعي إلى إسعادهم دنيويًا أو دينيًا أو هما معًا حسب رغبة كل واحد منهم. أكاد أجزم، أن التآلف هو تجميع للمختلف في كل متنوع مع حفاظ عناصر الكل على خصوصياتها من جهة، والتزامها بعقد الكل وبنوده من جهة ثانية. وتأملوا الآية التالية:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات 13].

إن مبدأ التآلف فيه نوع من التطاوع، وفيه استمالة بالحسنى، وكذا فيه انتظام في نسق مبني على توافق. لذلك، لا أتردد في اعتبار الوحدة وهم، وتاريخ المسلمين تاريخ ممارسة التوحيد الإلهي على التنوع البشري، تاريخ صهر الناس في وحدة لا تنوع فيها، والنتيجة العامة هي انتفاض أجزاء الكل ومحاولة الاستقلال عنه.

وقد أدعي أن مسعى التوحيد على إطلاقه فيه استطالة على الناس، وتعدٍّ وظلم وتجاوز للحد؛ فالإسلام يهدف إلى الوحدة في العقيدة؛ أي في التأليه، ويسعى إلى التأليف بين البشر المتنوعين في الواقع العملي، والألفة معناها أن نصل بعضنا بعضًا، وأن ننتظم وفق معايير وأهداف مع احتفاط كل واحد منا بشخصيته، وهذا يستدعي الاعتراف بالآخر والتعامل معه بناء على قواعد مشتركة. أما الوحدة فتهدف إلى الدمج، والانصهار، والذوبان، وهذا منافٍ لمسلمة التنوع في الخلق الإلهي والطبع البشري، ومخالف للوحدانية الإلهية مسلمة مفادها أن لا واحد إلا الله، ومنافٍ لطبيعة البشر الجوانية وتعدد المؤثرات الخارجية عليها، والتي تتنوع بتنوع الناس والمحيط والثقافة.

أظن أن النص القرآني فرق بين الإيمان والإسلام؛ أي بين الظاهر والباطن في الإنسان؛ فالإسلام دين والإيمان تمثّل هذا الدين، والإسلام معطىً جاهز وفي ملك الكل، والإيمان تجربة ذاتية فردية للإنسان مع المتعالي. وهذا الأمر يمكن تعميمه على أي فكر أو فلسفة ارتقت عند صاحبها إلى درجة المعتقد، إذ يرتبط بأفكارها وجدانيًا، ويتمثلها في السياسة والمجتمع والاقتصاد، ويحس بسعادة جوانية حينما يحقق بعض ما يؤمن به على أرض الواقع وبالاستناد إلى أصوله الاعتقادية. إنه يحقق ذاته من خلال التمكين لمعتقده. وفي هذا تتساوى الأفكار البشرية والديانات السماوية. وعندما يتجاوز المؤمن بإيمانه ذاته إلى الغير يقع في خطر تعميم ما هو في الأصل فردي على الذوات الأخرى، هذا هو بالضبط ما يقع مع كل دين أو فلسفة، حينما يسعى المؤمن بها إلى فرضها على غيره، ولو بالإكراه أيًا كان مصدره وأيًا كانت طريقته.

  مؤمنون بلا حدود
[1]- لقد اعتمدنا بتصرف كبير على مقال مؤسس و رئيسي لنوماس لوكمان عنوانه كالتالي:

Religioese Strukturen in der saekularisierten Gesellschaft.


نشر في مجلة Information العدد 12 شتوتغارت 8/1964 و قد تم نشره تحت مظلة Evangelische Zentralstelle fuer Weltanschauungen.
شاركه على جوجل بلس

عن Editor

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق