مقالات | حوار في مفهوم العلمانية بقلم عزام أمين


عزام أمين
استحوذ مفهوم العلمانية على اهتمام شريحة واسعة من السوريين وشكّل نقطة خلافية بالنسبة لهم وهو كغيره من المفاهيم الجدلية، كالطائفية والهوية والإنتماء، خضع في كثير من الأحيان إلى التجاذبات السياسية والايديولوجية. فالبعض، إما عن جهل أو عن سوء نيّة، يخلط بين العلمانية والإلحاد والبعض الآخر عن سابق إصرار وتصميم يحاول لصق العلمانية بالأنظمة العسكرية الديكتاتورية العربية التي عاشت على الفساد واستعبدت شعوبها. بينما ادعى آخرون أن العلمانية مفهوم غربي لا يتناسب مع مجتمعاتنا العربية ذات الطابع الإسلامي المتدين وأنها لابد من أن تؤدي، بحسب رأيهم، إلى تدمير الروابط الاجتماعية والعائلية التي ستصبح في ظل العلمانية مجرد وسائل لغايات مادية!
ربما تعريف مفهوم العَلمانية بالرجوع إلى مبادئها الأساسية التي قامت عليها سيمكننا من معرفة ما إذا كان هناك، فعلاً، علاقة بينها وبين الالحاد من جهة وبينها وبين الاستبداد وتفكك الروابط الاجتماعية من جهة أخرى. الَعلمانية (بفتح العين وليس بكسرها وهذا خطأ شائع) Sécularisme  تعني العالم الدنيوي أو العالَمانية (بفتح اللام)Laïcité  ولها جذر لاتيني يعني الشخص العادي أو عامة الناس التي لا تنتمي لطبقة الكهنوت. في كتابه “الدين في الديمقراطية“، يعتبر مارسيل غوشيه (1998) أن هناك علاقة بين التحديث والعَلمنة ويرى أنّ العَلمانية هي القطيعة مع الدين حيث أنّ القارة الأوروبية الغربية كانت مسكونة سطحاً وعمقاً بالدين وما كان لها أن تشق طريقها إلى التحديث إلا بالقطيعة مع النظام المعرفي الديني للقرون الوسطى، وحسب غوشيه إن “التحديث هو الخروج من الدين“، وهذا لا يعني أبداً الإلحاد ولا العداء للدين وإنما الخروج من التديّن بوصفه “افرازاً اجتماعياً للدين ومأسسة له” كما يصفه عزمي بشارة في كتابه “الدين والعلمانية في سياق تاريخي” الصادر عام 2013. فالفرق بين الدين والتدين يكمن في الانتقال من الدين كحالة روحية إيمانية فردية إلى حالة مؤسساتية يتحول بفعلها الدين إلى عقيدة ومجموعة من القوانين الحياتية تقسم الدنيا إلى حلال وحرام.
هذه القطيعة مع الدين كانت على مراحل وبصورة أدق كانت عبارة عن صيرورة مليئة بالرد والأخذ وبالصراعات والحروب والتسويات بين الدولة من جهة والمؤسسة الدينية من جهة أخرى، فقد شهدت أوروبا في القرون الوسطى أسوأ فصول تاريخها التي تخللها إنشاء محاكم التفتيش من طرف الكنيسة البابوية التي كانت تلاحق أهل الفكر والتنوير وتزج بهم في مقصلة هذه المحاكم.
بحسب غوشيه، لا يجب الخلط بين “الخروج من الدين” و “الخروج على الدين” فمقولة مارسيل غوشيه أعلاه ليست إعلان حرب على الدين أو نهاية الدين ولكنها فقط بمثابة اعلان فصل الدين عن الحياة العامة وأن الدين محصور بالمجال الشخصي. ومن هذا المنظور فإن “الخروج من الدين“، أي العلمانية والحداثة، يكون ضروريا لحماية الدين أو/و عدم “الخروج على الدين” لأن ذلك –الفصل بين الدين والسياسة- هو الطريقة الوحيدة لعدم تعارض الدين والإيمان الشخصي مع الحداثة والحياة المدنية والسياسية. بشكل آخر، العلمانية تعتبر السياسة من اختصاص البشر أمّا الدين فهو من اختصاص المقدّس وهي بذلك لا تسمح بأن يكون مدنس.
إذاً وبناءً على ما سبق، لا يجوز خلط العلمانية بالإلحاد ولا تحضّ عليه وهي ليست مذهبا وإنما نظام حكم تُحترم فيه المعتقدات الدينية مهما كانت، وهنا يجب التمييز بين مفهوم “احترام المعتقدات الدينة” و”تطبيق المعتقدات الدينية“. كما أنه لا يجوز تبني العلماينة كمجرد استراتجية لمواجهة المشروع الإسلامي السياسي أو للتستر على الخوف من الإسلام السُني فهنا ننتقل من مفهوم العلمانية كنظام حكم يعتمد على التعددية والتنوع في الممارسة الفكرية والسياسية واحترام حق الأفراد في ممارسة شعائر جميع الأديان كخصوصية فردية إلى مفهوم “العلمانية الكيدية” والتي تخفي في طياتها حالة من الطائفية الاجتماعية.
 لا يجوز أيضاً اختزال العلمانية إلى مجرد فكرة “فصل الدين عن الدولة“، فالعلمانية بصورة أدق هي تحييد الدولة في الشأن الديني، أي استقلالية جهاز الدولة عن كل الأديان والعقائد واعتماد مبدأ المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن الانتماءات الدينية والمذهبية والعرقية والإديولوجية، كأساس لعلاقة الدولة بالمواطنين. وبهذا تُعتبر الديمقراطية من أهم مبادئ العلمانية وبناءً عليه لا يمكننا الخلط بين العلمانية وأنظمة الاستبداد فصحيح أنه في هذه الأنظمة لم يُسيطر الدين على الدولة ولكن كان هناك بالمقابل سيطرة للدولة على الدين والمؤسسات الدينية وهكذا تم إخضاع الدين للدولة وبشكل أدق لأنظمة الاستبداد من أجل خدمتها. يُشير نائل جرجس المختص بالقانون الدولي لحقوق الانسان إلى أن عدم زجّ الدين في السياسة هو إعلاء من شأنه ولقد أصبح ضرورة حتمية من أجل حماية الدين والدولة معاً، فكما يقول المفكر الإسلامي خالد محمد خالد في كتابه المشهور “من هنا نبدأ” (1974): إذا مزجنا الدين بالدولة فسنخسر الدين ونخسر الدولة.
العلمانية ليست إيديولوجية ولا تقبل بالتنميط الإيديولوجي لأنها لو فعلت لتحولت إلى دينٍ بديلٍ وهذا يناقض وجودها نفسه. وبناءً عليه فإن الكثير من أصحاب الإيديولوجيات حتى الماركسية منها بعيدون كل البعد عن العلمانية. كما أن العلمانية ليست مفهوماً غربياً وإنما إنساني من أهم مبادئه الدعوة للإيمان بالتعددية ومبدأ التسامح وإخضاع المنظومة الدينية بمفاهيمها لسلطة العقل والعلم، وهذا هو نفس المبدأ الذي كان ينادي به أعلام الفلسفة العربية ـ الإسلاميّة (الكندي – الفارابي – ابن رشد – ومتكلموا المعتزلة) قبل فلاسفة التنوير في أوروبا بأزمنة. ومقولة أن العلمانية لا تناسب واقعنا العربي الاسلامي تفترض ضمنياً أن الانسان المسلم يختلف عن الانسان الكلي بشكل عام، أي ما يصلح لباقي البشر لا يصلح لنا وهذه الفكرة التي يشترك بها الاسلاميون مع بعض المستشرقيين الغربيين تحمل في طياتها عنصرية ورؤية استعمارية لمجتمعنا.
أخيراً، بالنسبة لمقولة أن العلمانية تؤدي إلى تفكك الروابط الاجتماعية وتدمير القيم الانسانية، تستند هذه الفكرة على الربط بين الدين والأخلاق وأن هذه الأخيرة لا يمكن أن تكون موجودة بمعزل عن الدين.
في الحقيقة هناك علاقة جدلية بين الدين كمجموعة معتقدات إيمانية لها علاقة بالمقدس والأخلاق بما هي مجموعة قيم مجتمعية تساير تطور الجماعة البشرية. في بعض المجتمعات التقت القيم الأخلاقية المجتمعية بالمعتقدات الأخلاقية الايمانية وأصبحت جزءاً أساسياً منها ولكن في كثير من المجتمعات كانت الأخلاق سابقة للدين. هناك نقاط مشتركة بين وظيفة الأخلاق من جهة ووظيفة الدين من جهة أخرى ولكن من دون أن يتطابقا بالضرورة، فليس كل ما هو أخلاقي هو ديني وليس كل ما هو ديني هو أخلاقي. بنظرة موضوعية وعميقة إلى المجتمعات الغربية التي يمكن وصفها بأنها علمانية نستنتج أن الروابط الاجتماعية بخير والعائلة بخير والقيم الانسانية بخير وأن هناك من التعاطف والتضامن الاجتماعي وفعل الخير والاحترام بمقادير ربما نحتاج إلى أجيال وأجيال لتحقيقها في مجتمعاتنا العربية الإسلامية. وبنظرة سريعة وعميقة لمجتمعاتنا التي يمكن وصفها بأنها متدينة سنرى من ظواهر الفساد والاستغلال وتفشي الكذب والحض على الكراهية والقسر وحب المظاهر والثراء الفاحش وعدم احترام الآخر والعنصرية والطائفية والطغيان بأشكاله الاجتماعية والسياسية ما لا يمكن رؤيته في مجتمع آخر.
تختلف الدول العّلمانية في درجة تطبيق المبادئ المشار إليها أعلاه ولكل دولة خصوصيتها، فمثلا بعض الدول بالرغم من تبنيها العلمانية مازالت تسمي دينا للدولة ومازلت تدرس الدين في المدارس. و سواء اتفقنا أو اختلفنا مع هذه المبادئ فإن نقاش العلمانية ومدى صلاحيتها لسوريا والشعب السوري لا يجب أن ينطلق من المصالح الفردية أو الطائفية ولا من منظور ايديولوجي أو حزبي وإنما من منظور المصلحة السورية العليا، يجب أن ينطلق من سؤالنا عن نظام بديل لنظام الاستبداد العسكري الذي تحولت في ظله سوريا من دولة تحكمها قوانين إلى مزرعة عائلية يحكمها الفساد والاضطهاد. هذا البديل يجب أن يكون ضامناً للعيش المشترك وذلك من خلال قوانين تناسب جميع القوميات والأديان والطوائف تجعل من أفرادها مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.

 بالطبع من حق الإسلاميين أن يكونوا مناهضين للعلمانية لأن لديهم مشروعا بديلا آخر يعتقدون أنه أفضل منها ومن حقهم محاولة إقناع الشعب السوري بذلك عن طريق إظهار إيجابيات مشروعهم هذا ولكن ليس عن طريق تزوير مفهوم العلمانية وربطه، عن قصد، ببعض الأفكار التي تُعتبر بعيدة كل البعد عنه.

المصدر: الجمهورية
شاركه على جوجل بلس

عن Editor

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق