مقالات | المفاهيم و الانتماءات الأصيلة ما بين الاستبداد والحرية (القومية العربية والعلمانية ) نموذجاً بقلم نديم عبد الحميد.



بقلم:نديم عبد الحميد

ساهمت الأنظمة العربية المعاصرة وخلال فترة حكمها الممتد لعقود من الزمن في تشويه كثير من المفاهيم الإنسانية والحداثوية ذات المضامين النهضوية إن لم نقل معظمها، وذلك عبر التشدّق بها شعاراتياً واستخدامها واستثمارها في إطارها الشكلاني فقط ، فهذه الأنظمة امتطت كل ما استطاعت إليه سبيلا من مفاهيم وانتماءات وقضايا لتقوية قبضتها الداخلية ولاستئثارها بالسلطة، أما سلوكياً فممارساتها كانت على النقيض من ذلك تماماً، ولعلّ الربيع العربي هو أبرز مكاشفة وتعرية لتلك الأنظمة في هذا الخصوص.

خلال الربيع العربي وما نتج عنه من مساحات للحرية بكل تجلياتها، لفظياً أم سلوكياً، بدا جلياً مدى الضيق والنفور الشعبيين من تلك المفاهيم ومن الأنظمة التي جعلتها مطيّة لطغمويتها. وقد عبّرت شعوب الربيع العربي عفوياّ عن ذلك سواءً جماهيرياً أم نخبوياً، ولم يتبع تلك العفوية في الرفض لتلك المفاهيم أي عمق في التفكير بماهيّة هذه المفاهيم وأهميتها في سياق استكمال ما بدأه هذا الربيع، أي أن التشويه الذي طال المفاهيم جرّاء سوء استخدامها سلطوياً، جرى بالمقابل رفضها العفوي شعبياّ، وهنا مكمن المفارقة المأساة.

إن القطيعة مع الأنظمة البالية إنسانياً ووطنياً وتاريخياً هي قطيعة ضرورية ولا لبس فيها، ولكن على القطيعة أن تكون مع آليات ووسائل الاستبداد وثقافته ومنظومته، وليس على صعيد ما استثمره هذا الطغيان السلطوي من مفاهيم هي منه براء. فرمي الطفل بأوساخه – إن جاز هذا التشبيه – ليس بذي جدوى، بل ليس من العقلانية بشيء، فالسخط من كم الأفواه و الاعتقال والتعذيب والقتل والتشريد والانتهاكات من قبل أنظمة طغموية تدّعي القومية العربية والعلمانية (على سبيل المثال لا الحصر) لا يعني البتة بطلان هذين المفهومين أو سوئهما، وإن التصاق بعض الإيديولوجيات الحزبية – والتي نمت في ظل تلك الانظمة – ببعض المفاهيم الأصيلة والمعبرة عن الانتماء ،ومن ثم فشلها، لا يعني أيضاً أن نتوه عن جدوى تلك المفاهيم وأهميتها في وعي ذاتنا من أجل تحقيق هذه الذات.

ونظراً لما كرّسته هذه الأنظمة وتلك الأحزاب من صورة مغلوطة عن تلك المفاهيم، وخاصةّ أنها أنتجت ونتجت عن تيارات أدّعت القومية العربية والعلمانية وأمست أنظمة شمولية أقرب إلى الفاشية منه إلى الحالة الديموقراطية الحافظة لحقوق الانسان والمواطن، و نظراً لما قدمه التاريخ العربي المعاصر من نماذج أساءت إلى ما ادّعته، فما كان من شعوب المنطقة العربية وتحديداً في ربيعها العربي، إلا أن (كفرت) بهذين المفهومين بدلاً من إحداث مقارنة بسيطة بين ما تم استخدامه كادّعاءات وبين ما تمت ممارسته بشكل متناقض.

علينا إذاً إعادة التفكير في المفاهيم كمفاهيم معرفية، وكضرورات نهضوية، وعلى هذا الأساس قد يتبين لنا بأنه ليس من الفكر بشيء بأن تكون القومية العربية والعلمانية كمفهومين ،هما طرف في معادلة الاستبداد السياسي لمجرد ادّعاءات المستبد السياسي ذاته بأنه عروبي وعلماني، بينما التفكير المفاهيمي المعرفي يبين لنا بأن هذين المفهومين ينضويان جوهرياً على فلسفة الديمقراطية ويتبعان لمصفوفتها الفكرية. كما أن التعامل مع المفاهيم ومحاكمتها، عليه أن يكون على أرضية العقلانية والنفعية أيضاً، وليس على خلفية عاطفية انفعالية، وقد أثبت واقع الربيع العربي حقيقة هذين المفهومين الأصيلين.

وفي التاريخ المعاصر هناك شاهدان: الأول ، في بداية فترة الاستقلال، والثاني هو انطلاقة الربيع العربي، وفي كلا المثالين لم يكن للأنظمة العربية المُثار عليها أي وجود أو فعل، فما انتقال شعلة البوعزيزي من تونس إلى الأحواز، مروراً بمصر وليبيا واليمن وسوريا والعراق، إلّا لبرهان تاريخي على أن الشعوب العربية هي جسد حيوي واحد وأمّة واحدة، وما الشكل الذي اتخذه هذا الربيع في انطلاقته وقبيل تكالب الأمم والمال السياسي والأنظمة العربية ذاتها عليه، إلّا لدليل آخر على عمق وتجذّر مفهوم العلمانية في لاوعيه الجمعي، لكنه في الوقت ذاته غير مدرك.

وهذا يستدعي بالضرورة إعادة تشكيل وعي مفاهيمي لشتى مفاهيم الحداثة،وذلك عبر إزالة الضبابية واللبس اللذان يحيطان بهم وشرحهم وتبسيطهم وتقديمهم ليس كانتماء قطيعي، بل انتماء معرفي، قيمي، براغماتي، قائم على الوعي ببنية المفهوم ذاته والإحاطة بتداعياته و الإلمام بتمفصله مع وعي الذات وتعريفها وادراكها وربطها بعجلة النهضة، فلاشيء أشد في فحص الصفاء العقلي من محاولة تعريف المفاهيم وتحديد المقصود منها، وفي هذا الإطار نجد بأن مفهوم القومية العربية هو ليس ايديولوجية، بل هو تأطير للهوية العربية الواعية بذاتها، ويصبّ في إنشاء الدولة العربية على أساس هذه الهوية وهذا الوعي بها، وليس فقط على أساس وحدة اللغة أو وحدة الإرادة (مشيئة العيش المشترك )، وليس على أساس وحدة الحياة الاقتصادية فقط.

فالقومية هي الشرعية السياسية للأمة في إقامة دولتها، أمّا من الناحية النفعية/البراغماتية، والوعي الكوني والوعي التاريخي يرشداننا إلى وقائع لا سبيل لدحضها، وعلى رأسها أن المستقبل للأمم، وحصانة السيادة للأمم، والقوة والبقاء للأمم، وانتاج المعرفة للأمم، أي أننا وإن لم نرَ في العرب أمّة فعلينا أن نخلق ذلك، وهذا في سبيل مستقبل أفضل للأقطار العربية مجتمعة ً، وفي سبيل دعم أحقيّة هذه الأقطار مجتمعةً أيضاً في صون ذاتها عن طريق نهضتها أولاً واتخاذ موقعها عالمياً كسائر الأمم الأخرى( بريطانيا وفرنسا والصين …إلخ) فليست لعبة الأمم المتحدة وإدارتها للعالم إلا انعكاس لميزان قوى هذه الأمم، وإن أبسط تجسيدات النفعية لفكرة (القومية والامة ) هي ما يعرف بميزان قوة قوى الأعضاء دائمة العضوية.

العلمانية ، وضمن هذا السياق ستمسي من حيث بنية المفهوم وماهيّته، المظلّة الجامعة للاختلاف، الضامنة للمساواة في الحقوق بين المواطنين، فالعلمانية هي أسلوب تفكير قبل أن تكون أسلوب في السياسة، جوهرها فصل الخاص عن العام، فصل الايديولوجية عن الدولة، واعطاء كل ذي حقٍ حقه دون النظر إلى دينه ومعتقده، هي تغليب العلم في الادارة، وعلينا هنا أن نتجنب الخلط الذي يضع الدين مقابل العلمانية، فالدين ليس علم إدراة ، وعلينا أيضاً أن نؤكد المزج الاخلاقي بينهما، فكليهما يتمتع بقيم أخلاقية وانسانية عالية.

لابد من الاشارة أخير من أن انتقاء هذين المفهومين كنموذج، لا يعني البتّة اقتصار الاهمية عليهما دون المفاهيم الأخرى والتي يحتاجها ربيعنا العربي كي يزهر، فالحرية والديموقراطية وحقوق الانسان والمواطنة وجميع مفاهيم الحداثة ، هي مصفوفة فكرية، لها سياقها ولها توظيفها الحيوي الضروري لاستكمال هذا الربيع، وما دعا إلى تخصيص هذين المفهومين دون غيرهما، هو (كفر) قطاعات ليست بالقليلة بهذين المفهومين على وجه الخصوص، وكما أسلفنا، على خلفية واحدة وهي ادّعاء الأنظمة المُثار عليها شعبياً بها، فتلك الأنظمة والتي عرّاها الربيع العربي، كشف عنها أقنعة الزيف والدجل، فتكشف وجهها الحقيقي، وقد بدا للعيان مدى قطيعة هذه الأنظمة مع تلك المفاهيم، مقابل الانغلاق الذي يكتنف حقيقة بنيتها، فظهرت أنظمة طائفية أو قبلية أو حتى أعلى درجة من ذاك الانغلاق، ليصل في حدوده إلى العائلية ، ومقابل كل مفهوم مما ادّعته ،كان الواقع يكشف عن ضده، نعم، لم يكشف الواقع إلا عن الإجرام ضد الانسانية و حقد طائفي و” تشبيح ” عائلي وارتهان لمصالح أعداء هذه الأمة.

المصدر:موقع حزب الجمهورية
شاركه على جوجل بلس

عن Editor

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق