مقالات | العلمانية من سماء الأفكار الى أرض الواقع…بقلم السيد نصر الدين.



بقلم: السيد نصر الدين

يشبه البحث عن تعريف ملائم لمفهوم “العَلمانية” محاولة اللحاق بعربة مسرعة تتحرك في العديد من الاتجاهات. فلـ “العَلمانية” تعريفات متعددة تختلف باختلاف السياق وتغير الزمان. فالبعض ينظر إليها بوصفها “فصل الدين عن السياسة” والبعض الآخر يعرفها بوصفها “حركة اجتماعية تتجه نحو الاهتمام بالشؤون الأرضية بدلاً من الاهتمام بالشؤون الأخروية” (دائرة المعارف البريطانية). ولا يتخلف الفلاسفة عن الركب فيعرفونها بأنها “التفكير في النسبي بما هو نسبى وليس بما هو مطلق. ومعنى ذلك تناول الظواهر الإنسانية والتي هي نسبية بالضرورة بمنظور نسبى وليس بمنظور مطلق” (مراد وهبة). ولا يتسع المجال هنا لذكر المزيد من التعريفات التي يعكس تنوعها تعدد أبعاد هذا المفهوم.

الا ان كتابة مئات المقالات او تأليف عشرات الكتب حول مفهوم العلمانية سيظل محدود الأثر في مجتمع تحكم ثقافته منظومة قيم انتهت مدة صلاحيتها. وهنا يبرز السؤال التالي “كيف يمكن تحويل مفهوم العلمانية الى “منظومة قيم بديلة” يتبناها افراد المجتمع عن اقتناع فتحكم سلوكياتهم؟ “منظومة قيم بديلة” يسهل على المواطن العادي فهمها وإدراك ما سيعود عليه من فائدة حال تبنيها.

وأول خطوة في الإجابة على هذا السؤال هو تأمل العناصر المشتركة في التعريفات المختلفة لمفهوم العلمانية. وهي العناصر التي تشكل مجتمعة ما يمكن أن نطلق عليه اسم “الثقافة العلمانية“. وهي الثقافة التي تشكلها مجتمعة المكونات التالية: “تمكين الإنسان“، “أولوية المعرفة البشرية“، “إنسانية الأخلاق” و”سنة التطور“. والنظر إلى العلمانية كـ “ثقافة” يساعدنا على تفهم الدور تلعبه العلمانية في الارتقاء بأحوال المجتمعات التي تتبناها كفلسفة حكم ومنهج حياة.

تمكين الإنسان

يعنى المكون الأول للثقافة العلمانية، “تمكين الإنسان“، رد الاعتبار للإنسان وتمكينه من لعب الدور الرئيسي والمحوري في إدارة شئون دنياه وذلك باستخدام ملكاته الفكرية وقدراته الذهنية فقط. فالإنسان طبقا لهذا المكون هو “سيد مصيره” و”مهندس واقعه” الأوحد والوحيد.



وتمكين المجتمع لأفراده يعنى سعيه الدؤوب، وبكافة الطرق، على تزويدهم بالمعرفة المتجددة سواء كانت معارف نظرية أو مهارات عملية وإتاحة الفرص أمامهم للعب أدوارا إيجابية في تسيير شئونه. وتنمية الرصيد المعرفي لأفراد المجتمع يؤدى بالضرورة لزيادة “رأس المال الفكري القومي“National Intellectual Capital للمجتمع ككل. وهو رأس المال الذي يعرفه أصحابه بأنه “مجموع الموارد غير المادية التي يمتلكها أفراد ومؤسسات دولة ما وتسهم إسهاما إيجابيا في تقدمها على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي”.



كما يؤدى وجود هذا المكون في الثقافة السائدة لمجتمع ما إلى إعلاءه لقيم الإبداع والابتكار في كافة المجالات. لذا نرى هذه المجتمعات تنشئ علوما لـ “إدارة الابتكار” Innovation Management وتؤسس منظوماتها القومية للابتكار National Innovation System. فرفاهية مجتمعات ما بعد الحداثة تقوم على”الصناعات المرتكزة على تكثيف العقول” Brain-Intensive Industries، أو “الصناعات المرتكزة على التوظيف المكثف للإبداع”. ولقد تجاوزت أهمية هذه الصناعات أهمية “الصناعات المرتكزة على تكثيف رأس المال”Capital-Intensive Industries وجاعلة “الصناعات المرتكزة على تكثيف العمل”، السائدة في بلدان العالم النامي، من حفريات التاريخ. وما صناعة برمجيات الحاسب او تلك المعتمدة على الهندسة الوراثية ﺇلا أمثلة لهذه الصناعات.



أولوية المعرفة البشرية

يهتم هذا المكون بالدور المحوري والرئيسي الذي تلعبه المعرفة التي ينتجها الإنسان في تقرير أحواله. و”المعرفة البشرية“، في هذا السياق، هي مجموع ما يؤمن به الإنسان من “اعتقادات صادقة ومُبَررة“. وتشمل الاعتقادات كل ما نعتبره صحيحا من تفسيرات أو تقييمات أو استنتاجات أو توقعات، وما يطرحه علينا الآخرين من معتقدات. ويتطلب اعتبار أي اعتقاد كمعرفة تمتعه بخاصيتين هما خاصية “الصدق” وخاصية “متانة التبرير“. وخاصية “الصدق” هذه تعنى إمكانية التحقق من صحة أي اعتقاد بالرجوع إلى الواقع لملاحظة آثاره على أحوال هذا الواقع، وبعدم تناقضه مع ما هو مستقر من معارف. أما ثاني صفات “المعرفة البشرية”، “متانة التبرير”، فتتعلق بطبيعة “البينات (أو الآمارات)” Evidences التي تدعم الاعتقاد، وتعنى تجنب “البينات الحكائية (الحكايات)” التي يصعب التأكد منها و”البينات الشهادية (الشهادات)” التي تفتقد للإجماع.

واليوم لا توجد أداة ذهنية أقدر على إنتاج المعرفة من “منظومة العلم الحديث” بمرتكزاتها الثلاثة: “الإمبريقية“، “العقلانية” و”الشك“. فلقد أثبتت هذه المنظومة فعاليتها في تغيير ظروف المجتمعات التي تبنتها نحو الأفضل على كافة الأصعدة والمستويات. فهي المنظومة التي لا تعوق حركتها فروض مسبقة أو أحكام مقَيِدة، وتستشعر الواقع المعاصر ومتغيراته وتسعى لإيجاد حلول لمشاكله مستمدة منه ومتوائمة مع ظروفه. أداة ذهنية تتوفر لديها آلية للتصحيح الذاتي تجعلها قادرة عل المراجعة المستمرة لما تنتجه من معرفة والتكيف الدائم مع أحوال الواقع المتغيرة. ولعل أهم ما يميز المعرفة التي تنتجها هذه المنظومة هو أنها ليست “مقدسة” فهي تخضع للمراجعة الدائمة والتدقيق المستمر. فالتحقق من صدق أي مقولة أو فكرة تتعلق بأي شأن من شؤون الواقع يتم عبر مقارنتها مع أحوال هذا الواقع الفعلية وتحديد مدى تطابقها وملاءمتها مع تلك الأحوال.



والمعرفة البشرية، أو المعرفة العلمية، تشكل الأساس الذي تقوم المجتمعات ما بعد الحديثة التي يطلق عليها “مجتمعات المعرفة” Knowledge Societies. فرفاهية هذه المجتمعات تقوم على أمرين. أولهما هو قدرة المجتمع على إنتاج معرفة علمية وثانيهما هو قدرته على توظيف واستخدام هذه المعرفة في تحسين أحوال أفراده. ولا يقتصر استخدام المعرفة العلمية على مجرد إنتاج سلع مصنعة تلبى حاجات أفراد المجتمع بل يتسع ليشمل الاستعانة بها في رفع كفاءة الخدمات المقدمة لهم وفى دعم عمليات اتخاذ القرار على كافة المستويات. كما تقوم اقتصاديات تلك المجتمعات في المقام الأول على “الصناعات المرتكزة على العلم” Science-Based Industries كمصدر للقيمة وكوسيلة لتحقيق مزايا تنافسية تنعكس آثارها على اقتصاد المجتمع ككل.



إنسانية الأخلاق

ترتبط الأخلاق في الثقافات التقليدية ارتباطا وثيقا بالديانة السائدة في المجتمع. فأوامر ونواهي هذه الديانة هي، بالنسبة لأتباعه، ثوابت واجبة الإتباع ولا نقض فيها أو إبرام. وفى المقابل يقوم المكون الثالث من مكونات الثقافة العلمانية، “إنسانية الأخلاق”، على مبدأ مؤداه أن معرفتنا بالصواب والخطأ ترتكز، في الأساس، على فهمنا لطبيعة الإنسان ولطبيعة المصالح المشتركة لأفراده. ويؤدى تبنى هذا المبدأ إلى ترسيخ قواعد سلوكية، فردية واجتماعية وسياسية، يتم الحكم عليها بمدى إسهامها في رفاه حياة الإنسان. ويتعزز هذا المبدأ بمبادئ أخرى من أهمها “القاعدة الذهبية” و”مسئولية الإنسان” و”عقلانية الأحكام“. و”القاعدة الذهبية” هي تلك التي تنص على “أحب لأخيك ما تحبه لنفسك”. أما “مسئولية الإنسان” فتعنى مسئولية الإنسان الكاملة الآنية وغير المؤجلة عن نتائج أفعاله أمام نفسه وأمام مجتمعه. ويؤكد مبدأ “عقلانية الأحكام” على قدرة الإنسان، عبر استخدامه للعقل والمنطق، على التوصل مبادئ حاكمة لما يجب على الإنسان تبنيه من سلوكيات.

  
سنة التطور

يقوم هذا المكون على مبدأ مؤداه أن التغير والتبدل والارتقاء هو القانون الحاكم لأي كيان. وهو المبدأ الذي تتعدد شواهده في كلا من عالم المنظومات الطبيعية (المادية) وعالم المنظومات الإنسانية (الاجتماعية). فلقد علمتنا دراسة ظواهر الانتظام الذاتي Self-Organization، التي تحدث في المنظومات المادية غير الحية، أن للمادة الصماء تاريخا مبدعا وخلاقا إذ تفرز تلك المنظومات بمرور الزمن أشكالا وبنى جديدة أكثر رقيا وحداثة من سابقتها وأن أحوالها ترتقي دوما من أوضاع بسيطة وساذجة إلى أوضاع أكثر تعقيدا وتطورا. وهكذا يصبح الزمن عنصرا فاعلا للتشييد والبناء وليس عنصرا للهدم والانحلال. فإذا كان هذا هو حال تاريخ المادة غير الحية، ترى إذن ما يكون عليه حال تاريخ الإنسان … !؟.


ومغزى هذا المبدأ هو أن “الغد هو الأفضل دائما“، وأن المستقبل هو الزمن الذي سيجسد فيه المجتمع أحلامه المتجددة وتطلعاته المشروعة ويقيم فيه عصره الذهبي بأيدي وأفكار أبنائه المعاصرين. أي أنه المستقبل القابل للتحقق على أرض الواقع عبر العمل الواعي والمنظم والمخطط لأفراد المجتمع. والماضي من منظور هذا المبدأ لا يمثل عصرا ذهبيا ينبغي إعادة إنتاجه بل هو فقط مادة للنقد والتحليل لاستخلاص الدروس المستفادة.

صوت العلمانية
شاركه على جوجل بلس

عن Editor

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق